من دفتر السجن – 1

من دفتر السجن (1)

جان كورد‏28‏ تشرين الأول‏، 2013

kurdaxi@live.com    https://cankurd.wordpress.com

 متى يبدأ الربيع؟

فيما مضى

كانت ذاكرتي عجيبة

أما الآن

فما عدت أتذكر

أين التقينا أول مرة

أنا والحبيبة…

ما عدت أتذكر يوم ميلادي

صور زملائي

وأسماء أولادي…

ما عدت أتذكر أسماء الجبال

وأنهار بلادي…

من أين تبدأ وأين تنتهي…

بالأمس

كانت مغروسة في فؤادي

كالأوتادِ…

وينابيع قريتي

كانت تنبض بالحياةِ في دمي

تصدح بالأورادِ…

ما عدت أتذكر دروس الجغرافيا

ولا فصول التاريخ…

لكني أتذكر -أبداً –

قدوم الربيع كل سنةٍ

كعودة السنونو…

ففي الربيع تندلع ألسنة نيران “كاوا”

على قمم جبالنا العالية

المكللة بالكبرياء… والعنادِ

أسمع في نيروزنا ملاحم عن ميديا

وأغنياتٍ تبدأ ب “لى…لى ولو…لو”

وأكتب قصائد جديدة

عن الحرية…

وا أسفي!

ها أنا ذا بعيد عن الينابيع الثرية

أشكو ضعف ذاكرتي

خلف هذه القضبان الصلبة

والجدران الرطبة

والسقوف التي تعشعش فيها الكراهية

اليوم

كتبت قصيدة جديدة

لا أدري أين هي

هل لف بورقها سجين آخر سيجارته العربية؟

أم أن حارساً أخذها لزوجته الغبية؟

أو أنها تقبع في ملفٍ أسودٍ

في ظلمةٍ أزلية؟

بالأمس كانت ذاكرتي عجيبة

أما الآن…

فما عدت أتذكر

سوى المدن المنهارة وسط أعمدة الدخان

ورائحة البارود

ونفايات القصور الفرعونية…

1975

وماذا بعد الزيارة إلى تركيا؟

30حزيران‏، 2013

لم تكن لزيارة أي سياسي كردي سوري لتركيا أصداء إعلامية بمستوى صدى زيارة السيد صالح مسلم التي تمت “تلبية لدعوة من السيد وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو”، فلقد تناقلت وكالات الإعلام الكردستانية والإقليمية والعالمية الخبر بنهمٍ ملحوظ ونشرته بإثارة مصحوبة بالتكهنات والتوقعات والتحليلات، منها الواقعية ومنها الخيالية، وذلك لأسباب عديدة، منها أن زيارة السيد صالح مسلم قد تلت مباشرة اشتداد المعارك بين “قوات حماية الشعب”  التابعة لحزبه، حزب الاتحاد الديموقراطي، وقوات المجموعات الإسلامية المتشددة، وفي مقدمتها “جبهة النصرة” التي تم إدراجها في قائمة “المنظمات الإرهابية” في العالم الحر الديموقراطي، والتي اتهمها السيد مسلم ورفاقه وجوقة الإعلاميين التابعة لحزبه بأنها مدعومة من تركيا المحكومة من قبل “إسلاميين!” معادين للحرية والديموقراطية ويعملون على نسف كل إنجاز قومي كردي أينما كان، ويسخرون لسياساتهم العدوانية عصاباتٍ سرقت اسم المعارضة الوطنية السورية، وحفنة من “خونة الشعب الكردي!”، كما جاءت هذه الزيارة المثيرة للعديد من التساؤلات بعد اجراء الانتخابات القيادية في حزب العمال الكردستاني، الذي يحتضن حزب السيد مسلم منذ تأسيسه، بل ما كان السيد مسلم ليصبح عضواً في مجلس الرئاسة لحزبه ونائباً لرئيس هيئة التنسيق الوطني السورية من دون موافقة من قيادة العمال الكردستاني، كما نعلم عن تركيبة وفكر وممارسة هذا التنظيم من خلال مراقبة طويلة الأمد له.

ومعلوم أن الحكومة التركية كانت في فترةٍ سابقة أحد الأطراف التي تتهم حزب الاتحاد الديموقراطي بولائه لنظام الأسد وبتبعيته لحزب العمال الكردستاني، وكانت ترفض علانيةً قيام الكرد في غرب كوردستان بأي خطوة عملية لتحقيق شكلٍ من أشكال الإدارة الذاتية في منطقتهم المحاذية للحدود التركية – السورية العراقية لما يقارب الألف كيلو متر امتداداً.

فماذا حدث؟ ولمَ كانت هذه الزيارة؟

ولكن قبل ذلك، يجدر القول بأن اغتيال الكادر القيادي المتقدم لحزب الاتحاد الديموقراطي، السيد عيسى حسو، قد يكون ثمناً باهظاً لتلك الزيارة، حيث اغتيل بوضع مواد متفجرة في عربته، التي تفجرت في الصباح الباكر، وكأن الذين لم تعجبهم تلك الزيارة بعثوا بذلك رسالة واضحة للأتراك ولحزب السيد مسلم معاً، وهنا يتساءل المرء عن دور مخابرات نظام الأسد، التي أدركت بأن رأس الحبل في المنطقة الكردية قد تم انتزاعه من أياديها، وأنه لم يعد لها حليف قوي فيها، في حين أن دور “ميت” التركي هو الأقوى بعد الآن.

قد يقول قائل:” لماذا تظنون الظنون بهذه الزيارة العلنية التي تمت في وضح النهار لرئيس مشارك لحزب “يلقي الرعب” في قلوب العثمانيين والأسديين والإسلاميين معاً؟” فنقول:” مثلما كنتم تظنون بالسياسيين الكرد الذين زاروا تركيا للمشاركة في مؤتمراتٍ للمعارضة السورية، هكذا نظن أيضاً بساستكم، لأنهم من ذات الطينة القومية التي جبل منها سياسيو حزبكم، والتي تجدونها قادرة على بيع كرامتها الإنسانية مقابل حفناتٍ من المال التركي” وكما تكيلون يكال لسياساتكم المتشقلبة هذه…”

وكما أن أيادي الغدر نالت من ثلاثة ناشطات كورد في قلب العاصمة الفرنسية باريس على أثر الإعلان عن مبادرة السيدين أوجلان وأردوغان بصدد المضي قدماً على طريق التصالح والحوار والسلام لما فيه منفعة الشعبين الكردي والتركي، فإن ما سبق اغتيال الكادر النشيط السيد عيسى حسو أيضاً قد يكون اتفاقاً آخر بين الحكومة التركية وبين حزب الاتحاد الديموقراطي، وهذا ما يقلق أطرافاً معينة في المنطقة، وفي سوريا خاصةً، فأي تقارب كردي – تركي صميمي وثابت يعني احداث تغييرات جذرية على رقعة الشطرنج الشرق – أوسطي، وأول الرافضين لذلك هو إيران وسوريا والعراق الواقع تحت السيطرة الإيرانية عملياً.

بعض الناشطين الكرد يتوجسون من اندلاع خلافات داخلية في حزب العمال الكوردستاني، وهكذا فإن مسلسلاً  للاغتيالات سيحدث في هذه الحال مثلما تم تصفية الكوادر التي انشقت عن حزب العمال وساهمت في تأسيس تيار المستقبل الكردي للشهيد مشعل التمو، ومن ثم بدأوا بتأسيس “الوفاق الكردي” وعلى رأسهم كمال شاهين والجنرال حفتارو،  ولكن بالمقابل يرى بعض المراقبين أن السيد صالح مسلم لم يكن ليتجرأ على الدخول في مباحثات مع جهاز (ميت) التركي، من دون موافقة مسبقة على ذلك من قبل قيادة حزب العمال الكوردستاني، الذي تسلم أرفع منصبٍ فيه بعد منصب الزعيم أوجلان، السيد جميل بايق، الكادر العريق المحسوب على المحور الإيراني في الحزب. والمحور الإيراني معروف بعدائه للحكومة التركية الداعمة للمعارضة السورية في وجه الحليف السوري لهذا المحور. فهل زيارة السيد صالح مسلم تدشن نهاية المرحلة التي كان فيها أمام الحزب الأوجلاني فرصة الاختيار بين الحلف التركي والإيراني – السوري والخطوة الثانية في تكريس السلام بينه وبين الحكومة التركية؟

هناك أيضاً الدور الهام لرئاسة إقليم جنوب كوردستان ورئاسة حكومته في دعم التقارب التركي – الكردي، وتمهيد الأرضية اللازمة باستقبال ممثلي الطرفين، الحكومة التركية وحزب العمال الكوردستاني، مراراً وتكراراً في عاصمة الإقليم، بهدف التقريب بين وجهات النظر وتحقيق ما يلزم لمتابعة الملف الكردي في شمال كوردستان، والاستعانة في ذلك بالمساهمة الإيجابية في التواصل والتلاقي من قبل حزب السلام والديموقراطية، الذي له نواب في البرلمان التركي، ويتمتع بشعبية واسعة بين الشعب الكردي ويحتاج حزب العدالة والتنمية للسيد رجب طيب أردوغان، رئيس الحكومة التركية، إلى أصوات نوابه البرلمانيين.

ويبقى احتمال نشوب صراعٍ داخلي في صفوف حزب العمال من أسوأ الاحتمالات، على الرغم من ضعفه وعدم ملاءمته للواقع الذي تشهده الأوضاع في غرب كوردستان خاصةً وفي كوردستان عامةً.

إلا أن ما يزيد الطين بلة في هذه المنطقة من شمال سوريا هو اندلاع القتال مجدداً بين “جبهة النصرة” و”جبهة الأكراد” التي هي تسمية أخرى لمقاتلي حزب الاتحاد الديموقراطي كما يبدو، بعد حدوث خروقات لاتفاق بينهما. وما يبعث على القلق هو ارتكاب المجازر وتهجير المواطنين الكرد ونسف المقرات وقطع رؤوس الشباب والتهديد بإنهاء الوجود القومي الكردي من قبل مقاتلي “دولة العراق وبلاد الشام الإسلامية” التي تعتبر منظمة “إرهابية” مثل جبهة النصرة، ومحاولتهم تحقيق أحلامهم في إقامة دولة دينية متطرفة، دون أي اعتبار للواقع على الأرض ودون أي احترام لحقوق الأقوام والشعوب. وهذه الهجمة الشرسة على الكرد في ديارهم لم تجمع كلمة شبابهم فحسب، بل فرضت على أحزابهم التوحد لمجابهة الخطر المحدق بوجودها كلها وبشعبها الذي تعتبر نفسها ممثلة له، وقد تكون زيارة السيد مسلم لتركيا تحت ضغط هذه الهجمات الشاملة، مما يفسح مجالاً للأتراك لأن يستغلوا الموقف ويملوا على الطرفين، الكردي والإسلامي الذي كان حليفاً لتركيا، ما يشاؤون من املاءات. وبالنسبة للكرد فإن لتركيا الأردوغانية سياسة مختلفة عن سياسات الحكومات العلمانية التي حكمت تركيا عقوداً من الزمن، تتمثل في “استغلال الكرد وطاقاتهم وثرواتهم وأسواقهم وإغرائهم ببعض الحقوق الإدارية والثقافية عوضاً عن تبديد الأموال التركية في الحرب عليهم“، وهذا يعني أن على تركيا تدجين حزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي) مثلما فعلت مع حزب العمال الكوردستاني من قبل، وإظهار القبول بمساعيه لبناء “إدارة ذاتية مؤقتة” غير قومية في المنطقة الكردية، إلى حين عودة الحياة للحكومة المركزية في دمشق، ولربما استعمال تلك الإدارة كورقة ضغط مستقبلية على السوريين بعد زوال حكم آل الأسد.

المرعب حقاً هنا، هو عدم إدراك المعارضة الوطنية والديموقراطية السورية لأبعاد وافرازات زيارة السيد صالح مسلم لتركيا، على الرغم من الاهتمام المثير لوكالات الأنباء المختلفة بها، والمعارض الوحيد الذي فهم تحرك البيدق الكردي على رقعة الشطرنج التركي – الإيراني  ” إن صح الخبر” هو رئيس الوزراء السوري المنشق السيد رياض حجاب، الذي كما قرأنا قد بعث برسالة إلى حزب الاتحاد الديموقراطي مؤكداً فيها قبوله تمتع الكرد بإدارة مستقلة مؤقتة لهم في شمال سوريا، لإدراكه الجيد بأن هذا وارد لأن الحكومة السورية الحالية أضعف من أن تفرض سيطرتها عملياً على أرجاء واسعة من البلاد، ومنها مناطق محيطة بالعاصمة دمشق، ولذلك فإن الاتفاق مع الكرد على أمر “إدارة ذاتية مؤقتة” واقعي جداً وأفضل بالتأكيد من ضم المنطقة الكردية إلى تركيا، في حال قبول المتحالفين الجدد (الحكومة التركية وحزب العمال الكوردستاني) بهذا الحل، وإن هذا وارد، في حال استمرار الإسلاميين العرب ومن التحق بهم من أجانب في حشر الكرد في زاوية ضيقة. وتركيا تستطيع القيام بضم المنطقة الكردية بذرائع تاريخية تعود إلى زمن الدولة العثمانية، وتجربتها مع لواء الاسكندرون ليست بعيدة عنا، والظروف من مختلف النواحي سانحة لها، كما أن المعارضة السورية التي ترقد وتأكل في فنادقها الغالية الأسعار وتتكلم وتتحرك من أراضيها لا تستطيع القيام بأي شيء ضد خطوة كهذه. والمعارضة الوحيدة التي ستأتي فعلياً لهذا الأمر ستكون بالطبع من ناحية القوى السياسية الكردية التي لن ترضى بذلك لأسباب عديدة لن نتطرق إليها هنا حتى لا يطول الموضوع.

ما حدث بعد زيارة السيد صالح مسلم لتركيا هو نسف مقرات حزبه واغتيال كادر كبير من بين رفاقه، وستبدأ موجة جديدة من العواصف التي ستهب على الكورد والعرب في شمال سوريا، قد تتمخض عن عواقب سيئة للشعبين، إن ظلت زعامات المعارضة الوطنية والديموقراطية السورية بصدد الحقيقة الكردية كالقرد الذي لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم في وقتٍ عصيب.

أهل مكة أدرى بشعابها

Cankurd –  03.07.2013

http//:cankurd.wordpress.com      kurdistanicom@yahoo.de

جان كورد

أثبتت هذه الحكمة العربية عبر القرون والعصور صحتها، وأخذ بها الغربيون في السياسة والاجتماع في حين أهملها أهل مكة أنفسهم ومن حولهم العرب والعجم، وعلى أساس هذه الحكمة قلل الغربيون من فرص استبداد بعضهم في الإدارة والحكم برقاب بعض، إذ لا يعقل أن يرسلوا من يحكم في مكة في حين هناك مكيون يعلمون عن مدينتهم وشعابها أفضل بكثير ممن يعيش بعيداً عنها أو في مدينةٍ مجاورة،

أما العرب والعجم بل الشرقيون عامة فيلفظون هذه الحكمة بأفواههم وما أشبه بها في اللغات والثقافات المجاورة، ولكنهم لا يطبقونها في المجال العملي على أنفسهم، ولذلك يرفضون الفيدرالية والحكم الذاتي والإدارة اللامركزية، وهي أفكار واقعية أثبتت جدارتها وقدرتها على التطبيق العملي المنتج في بلدانٍ عديدة مختلفة عن بعضها بعضاً من حيث الموقع الجيوبوليتكي والمساحات والثقافات والتكوينات السكانية، ومن حيث الأعراق والقوميات والأديان. ولذلك يطالب بها أبناء وبنات الشعوب المحرومة من حقوقها المنصوص عليها في القوانين الدولية، ومنهم الشعب الكردي في سوريا، حيث تواجدهم التاريخي على أرض وطنهم “كوردستان” منذ فجر التاريخ مؤكد ومعلوم، بل ومقبول من العديد من رجالات الفكر والدين والسياسة في سوريا وما حولها، ومطلب الكرد أن تكون إدارتهم لنفسهم ذاتياً على شكل “فيدرالية” قومية أو “إقليمية” لأنهم أدرى بشؤونهم المعيشية والسياسية والثقافية، وكذلك لا يمكن للكردي الساكن في شمال البلاد أن يفهم أوضاع أبناء الجنوب السوري، حيث الأقلية الدرزية، أو أبناء جبال العلويين في غرب البلاد، أو أبناء السنة في وسطها، بشكل أفضل منهم، فإن “أهل مكة أدرى بشعابها” كما تقول العرب.

وطبقاً لهذه الحكمة الإنسانية المتأصلة في نفوس العرب، أوزع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) محمد العربي إلى القبائل التي قدمت إليه بأن يتولى بين يديه أمر كل واحدةٍ منها رجل عارف بشؤونها وأمورها، وفعلوا ذلك دون تردد لأن ذلك طبيعي ولأن رسول الله (ص) يأمرهم بذلك، ولكن يبدو أن قبائل العرب اليوم قد نسيت طبائعها الأصيلة ونسيت أن النبي الأكرم (ص)، الذي نقلهم وهم أميون وجهلة إلى قيادة العالم القديم كله، قد طبق هذه الحكمة التي لا يمكن تعارضها مع الدين الحنيف، لأنه بالتأكيد كان سيرفض الأخذ بها في حال تعارضها مع العقيدة التي قال عنها لقومه: “والله، لو وضعوا الشمس على يميني والقمر على يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته.. ” إلى آخر الحديث النبوي الشهير.

ما الذي يقوله أعداء الفيدرالية؟

إنهم خائفون من أن يؤدي تقسيم السلطة على الأقاليم إلى تفتيتها و”انفصالها”، ولكنهم يجهلون أو يتجاهلون أن “الفيدرالية” تعني “الاتحاد” وليس “التفتيت”، وأن الانفصال على عدالة أفضل من الاتحاد على ظلم وعدوان، فإن بنغلاديش ما كانت لتنفصل عن باكستان لولا تراكمات الظلم والعدوان، وكذلك سوريا عن وحدتها مع مصر، لو كان نظام الحكم فيهما فيدرالياً. إذ نرى بأعيننا اليوم كما هي واسعة ولينة فيدرالية إقليم البايرن (بافاريا) في جمهورية ألمانيا الاتحادية التي يطبق فيها نظام الإدارة اللامركزية حتى على مستوى بعض المدن، مثل برلين وهامبورغ في شمال البلاد، ولكن مع ذلك لا يفكر أحد في الولايات الألمانية بالانفصال. أو كيف هي الحال في الولايات المتحدة الأمريكية التي يسمح دستورها بانفصال الولايات عنها، ومع ذلك يزداد تلاحمها من مختلف النواحي، حيث تنامي الاقتصاد وتشابك المصالح هو الذي يلعب الدور الأساسي في التماسك وفي التنازع، وليس الثقافة أو اللغة أو الدين كما يظن البعض، فالاتحاد الأوربي يضم شعوباً عديدة ولغاتٍ كثيرة ومذاهب دينية مختلفة، ولكن نظامه الاتحادي هو الذي يحدد العلاقات فيما بينها ويدفعها للتضحية المالية العظيمة من أجل انقاذ بعضها البعض مالياً من أزمةٍ قاتلة. كما هي الحال في اليونان وقبرص اليوم.

في المقابل فإن العرب أمة واحدة ولغة واحدة ودين واحد إلا أنهم لازالوا متفرقين وغير قادرين على إقامة نظام سياسي مسترك لهم، على الرغم من تأسيس الجامعة العربية منذ عقودٍ من الزمن بهدف إنجاز وحدتهم. والسبب في ذلك هو أنهم لم يأخذوا بالنظام الفيدرالي ولاتزال سياساتهم تؤمن بالمركزية المفرطة التي يتربع على عرشها من بيديه مفاتيح السلطان كله، ملكاً كان أو رئيس جمهورية.

وفي أجزاء كوردستان المقسمة المجزأة عانى الشعب الكردي من مختلف سياسات القمع والاقصاء والاضطهاد والغصب، بل تعرض للمذابح المتتالية على أيادي الحكومات العسكرية والمدنية، الملكية كما في عهد الشاه الإيراني، وشبه الديموقراطية كما في تركيا الطورانية، والثورية “التقدمية” كما في ظل حكومات البعث العربي الاشتراكي في كلٍ من سوريا والعراق. ولكن رغم هذه المعاناة توقف مقاتلو الكرد عن القتال في سائر الأجزاء، وظل هذا الشعب بمختلف تياراته العلمانية والدينية، اليسارية والديموقراطية، يطالب بأن يمارس حقه في إدارة نفسه حسب الحكمة العربية الأصيلة “أهل مكة أدرى بشعابها”… وليس هناك حزب كردي أو كردستاني واحد (من التي تمتلك القوة الجماهيرية) يطالب بالانفصال اليوم، ولذلك ترى الكرد في جنوب كوردستان مثلاً أكثر التزاماً من حكومة المالكي العراقية ذاتها بالدستور العراقي، الذي إن تم تطبيقه كاملاً، وبخاصة المادة 140 منه، فإنه سيغلق باب الانفصال على الكرد ردحاً طويلاً من الزمن، ولربما نهائياً.

فلماذا إصرار بعض قادة المعارضة السورية على رفضهم مطلب الكرد، طالما هم مقتنعون فعلاً بأن الكرد تعرضوا خلال العهود الماضية إلى الاضطهاد والتمييز، وأن الفيدرالية ستردم الهوة بينهم وبين إخوتهم في “الوطن المشترك” أو ما يسميه بعض الشباب ب”الوطن النهائي!”، وطالما أن حق تقرير المصير حق لكل الشعوب، وأن الثورة السورية عاملة على بناء سوريا جديدة حرة وديموقراطية، تؤمن بحق المرء في ابداء رأيه بحرية في شكل الدولة وفي أسلوب إدارتها أيضاً. فلماذا يغلق بعضهم الباب ضمن تكتلات وتشكيلات المعارضة في وجه “إخوتهم” الكرد، إن كانوا يؤمنون بالتآخي بين الشعوب حقاً…؟ والتآخي لا يعني الدمج بالقوة أو الانصهار ذاتياً في الآخرين، وإنما الاتحاد عن قناعة ومصلحة مشتركة وعلى أسس التكافؤ والعدالة والمساواة.

وعجيب فعلاً أن ليس هناك دولة عربية أرغمت دولة عربية أخرى على الوحدة معها، ولكن حتى ضعفاء العرب يهددون الشعب الكردي على الدوام باستخدام القوة، على الرغم من أن فرض الوحدة العربية على العرب أهم لهم مما يمارسونه ضد الكرد من تعسف لا يقبله الشرع الإلهي ولا القانون الدولي.

سوريا: في انتظار يوم الحسم

24 تموز 2013

كل الدلائل تشير إلى أن الأوضاع في سوريا تسير من سيءٍ إلى أسوأ، فالثورة التي انطلقت من أجل الحرية تحمل في مفاصلها الآن آلاماً لاتطاق وفي جسدها أوراماً خبيثة، والسوريون يدركون اليوم بأن ثورتهم ودماءهم وثرواتهم صارت مغنماً لمن لايحملون ذرةً من الإيمان باستقلالية هذا الشعب وهذه الجغرافيا، فعلى طرفي الصراع قوى مقاتلة مندرجة أسماؤها في لائحة الإرهاب الدولي، ووصل الأمر إلى غاية الاستهتار بحياة ومطالب ومستقبل السوريين جميعاً، حيث وزير خارجية روسيا لافروف الذي دعم نظام العائلة الأسدية الدموي بكل ما أوتي من قوة، على مختلف الصعد، يدعو بلا حياء للجوء المعارضة إلى أحضان هذا النظام المجرم، للتصدي معاً لإرهاب المجموعات المتطرفة التي لها مشروع إقليمي لايعترف بالدولة الوطنيةأو القوميةولاعلاقة له بالثورة السورية من أجل الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. ويتجاهل هذا ا لداعم الروسي الكبير أنه يتحالف مع إيران المعروفة كأحد أهم محاور الشرفي المنطقة وأن أول من تعتمد عليه إيران في قتالها لإنقاذ الأسد من نهاية مذلة هو حزب الشيطانالذي تم إدراج جناحه العسكري المتورط في الحرب على الشعب السوري في لائحة المنظمات الإرهابية أيضاً

الثورة تفترس أولادها. نعم هذا صحيح، فها هي كتائب الفاروق تتوجه إلى محافظة الحسكة لمحاربة الشعب الكوردي تحت شعار محاربة المستعمرين والمحتلين!” عوضاً عن التحرك صوب العاصمة دمشق، حيث مركز إرهاب النظام، أو عوضاً عن فك الحصار عن السوريين في مدينة حمص، التي عانى أهلها مما لم تعانيه بغداد أثناء غزو هولاكو لها أو أثناء قصف الأمريكان لقصور ومقرات الطاغية صدام حسين، وحيث تم تدمير مسجد خالد بن الوليد، فهل تحولت الثورة الإسلامية التي تؤمن بها كتائب الفاروق إلى حربٍ على الشعب الكورديالمسلم في غالبيته، في شهر رمضان المبارك هذا؟

وها هو أردوغان التركي المسلم يعلن عن عدم تحمله المزيد من الأذى على حدود بلاده، بسبب أن الموضوع الساخن هنا متعلق بالشعب الكوردي، ولكنه صبر على أذى الأسد للشعب السوري ولبلاده تركيا لسنوات، دون أن يتحرك فعلياً لوقف النزيف السوري، مكتفياً بالتهديد والوعيد ورسم الخطوط الحمراءحول حمص وحلب، ومن ثم حول المدن التركية التي حاول الأسد إيصال لهيب نيرانه إليها، كما حدث في استانبول أخيراً من حوادث دموية واضطرابات مدفوع ثمنها، وكما حدث من تفجيرات إرهابية على الحدود من قبل

أمام هذه اللوحة البائسة للمشهد السوري الذي يزداد قتامةً في الألوان ورعباً في الاشكال، يقف العالم الحر الديموقراطي مندهشاً، بعد أن رأى بعيونه، وهو في حالة استرخاء صوفي وقلة حيلة، كيف تتحول سوريا التي اندلعت فيها ثورة من أجل الحريات السياسية وحقوق الإنسان إلى ساحةٍ لتصادم الإرهاب العقيدي، وإلى مجزرةٍ كبيرة للإنسانية، وبؤرة تتسع باستمرار من بؤر النار التي تستهدف وجوده ومشاريعه في المنطقة. وإذا كان السياسيون الجهلة لم يشعروا بحقيقة الأخطار التي تهب على مصالح بلادهم في الشرق الأوسط، فإن شعوبه لن تسكت عن فشلهم الكبير هذا في القيام بعمل صحيح حيال ما يجري في سوريا، وسترغمهم على القيام بواجبهم، ليس بسبب ما تراه هذه الشعوب يومياً على شاشات التلفزة من مجازر رهيبة ترتكب ضد الشعب السوري، وإنما لأنها تدرك خطر البركان الذي يقذف الحمم في الشرق الأوسط، وقد يقضي على مصالحها النفطية وأسواقها التجارية وأصدقائها ونقاط الارتكاز لاستراتيجية لبلدانها، وشعوب العالم الحر الديموقراطي لاترحم الأغبياء والضعفاء من قادة وسياسيي أوطانها، بل ترميهم جانباً كقشور الموز في الانتخابات التالية بسرعة وبدون تردد، لأنها تعشق الحرية ولاتقبل أن يستهين بحريتها ومصالحها أحد، مهما كان عزيزاً عليها ومهما كان ذا تاريخ وأمجاد عظيمة في تاريخها.

وعليه فإن الحكومات الغربية على الرغم من وجود ذرائع لديها لعدم التدخل العسكري في سوريا، وفي مقدمتها ذريعة المصاريف الهائلةالتي لاتستطيع بلدانها تحملها بسبب الأزمة المالية الحالية، وهذه ذريعة مقنعة للشعوب في كل مكانٍ من العالم، إلا أن الأسباب الداعية للتحرك عملياً، بصورة أو بأخرى، كثيرة ومقنعة أيضاً، وفي مقدمتها تنامي نفوذ المجموعات المتطرفة على الساحة السورية، وهي المعروفة بعدائها التقليدي للعالم الحر الديموقراطي، وكذلك توجه سوريا نحو التفتت والتقسيم، واشتداد النزاعات الطائفية، والتدخل السافر في هذه الحرب القذرة إلى جانب النظام من قبل ايران وسواها، والضغط الشعبي يزداد على الحكومات الغربية التي نأت حتى الآن بنفسها عن اللجوء إلى القوة لايجاد حل للأزمة السورية،  وذلك بعد سلسلة من المحاولات الفاشلة لاقناع الرئيس الأسد بالتنحي عن الحكم والخروج من البلاد، وبعد فشل طرفي الصراع في سوريا في احراز الانتصار النهائي على بعضهما بعضاً، وكذلك في تحقيق أي خطوة إيجابية على طريق الحوار السلمي بهدف وقف الاقتتال وإقامة حكومة وطنية مؤقتة واللجوء إلى المحادثات عوضاً عن التقتيل والتدمير، رغم كل الضغوط عليهما ومنها منع تدفق السلاح على المعارضة لارغامها على قبول مقترحاتٍ دولية معينة، ورغم السعي الحثيث من خلال مبادرات متتالية، عربية ودولية، كمبادرة السيد كوفي عنان ومبادرة الأخضر الإبراهيمي، لعقد اتفاقٍ بين النظام والمعارضة حتى في أبسط الصور والأشكال. وكذلك المبادرة الروسية – الأمريكية المشتركة لعقد مؤتمر جنيف 2 في هذا العام

بدأت الحكومات الغربية مؤخراً بمحاولات عملية، سياسية وتعبوية، ومنها منح المعارضة السورية كميات محدودة من السلاح بشروطٍ منها عدم وقوع هذا السلاح في أيادي المجموعات التكفيرية الإرهابية، ووضع الجناح العسكري لحزب الله المتورط في الحرب السورية في قائمة المنظمات الإرهابية، وإطلاق تصريحات أمريكية من المستويات العسكرية العليا توحي بأن هناك خطط جاهزة موضوعة على طاولة الرئيس أوباما بصدد القيام بما يتطلبه الوضع السوري من إجراءات عسكرية، سبقتها مناور ات أمريكية – أردنية هامة على الحدود السورية، وكذلك التهديدات المباشرة من قبل إسرائيل للنظام في حال تهديد أمنها من خلال وضع سلاحه الكيميائي تحت تصرف المجموعات الإسلامية المتطرفة أو حزب الله، إضافة إلى التصريحات التركية التي توحي بأن تركيا قد تتدخل في شمال البلاد، وهو تدخل لن يغير من المعادلة السورية وإنما لمنع الكورد من تحقيق أي مكاسب قومية لهم. وكل هذه التصريحات الساخنة هدفها الضغط على نظام الأسد سياسياً، ولكنها قد تتحول في المستقبل إلى فعل عسكريتقوم به دول إقليمية أو الولايات المتحدة بذاتها، رغم خطورة الاحتمالات التي ستنجم عن هكذا فعل، وفي مقدمتها تحويل سوريا إلى مدخل للحرب الإقليمية الواسعة

إن الظروف المحيطة بسوريا والتطور الحاصل في المسار السياسي وعلى ساحات القتال، حيث عدم وجود توازن عسكري بين قوى المعارضة والقوات النظامية، مقابل عزلة شبه تامة للنظام، إضافة إلى تأثرالأمن في كل من إسرائيل ولبنان سلبياً بما يجري في سوريا، والمشكلة الإنسانية الكبيرة نتيجة نزوح الملايين من السورية، كل هذه المسائل تؤدي الى اضطرار الدول الغربية إلى إيجاد مخرجٍ من هذه الأزمة المستعصية التي أصبحت مشكلة دولية خطيرة، وهذا يعني الاقدام على مرحلة الحسم السريععسكرياً، أو تناسي الموضوع كلياً وبالتالي تحويل سوريا إلى صوماليا في إحدى أهم مناطق العالم بالنسبة لهذه الدول المعنية. ولذا يمكن القول بأن سوريا في انتظار يوم الحسم

ما يجري في تل أبيض تحت المجهر

جان كورد : 23 تموز‏، 2013

(هل تتذكرون رفض حزب الاتحاد الديموقراطي لعودة آلاف البيشمرﮔة الكورد السوريين المدربين في جنوب كوردستان؟ وهل تتذكرون أنه رفض السماح لتشكيل أي تنظيم عسكري كوردي سوري إلا ضمن قوات الحماية العائدة له؟)

إن اشتباك قوات حزب الاتحاد الديموقراطي مع تنظيمات إسلامية عربية في تل أبيض (ﮔرى سبي) قد بدأ واستعرت ناره بعد الاتهامات المتبادلة بخرق الاتفاق المعقود بين هذا الحزب و”جبهة النصرة” المحسوبة على المنظمات الإرهابية في العالم الحر الديموقراطي، وإذا كانت هناك تنظيمات إسلامية أخرى منضمة للقتال إلى جانب جبهة النصرة فإن أي حزبٍ كوردي أو كوردستاني لم يعلن حتى الآن مساهمته في القتال إلى جانب حزب الاتحاد الديموقراطي، على الرغم من استمرار نشاط الهيئة الكوردية (العليا) التي تشارك فيها بعض الأحزاب الكوردية  مع هذا الحزب، ويتردد بأن “قوات الحماية الشعبية” العائدة له تابعة لهذه الهيئة وتأتمر بأمرها، كما ان أي حزبٍ كوردي آخر لم يوقع من قبل إتفاقاً مع جبهة النصرة وسواه من المنظمات المتطرفة التي لها ضلع كبير على ساحة القتال الدائر منذ زمنٍ طويل بين الشعب السوري ونظام العائلة الأسدية الباغي والدموي. وعليه فإن المسؤولية الكبرى في الجانب الكوردي عن النتائج السلبية لما يجري في هذه البقعة التي اشتهرت تاريخياً بصونها الوحدة الوطنية والتعايش السلمي بين مكوناتها الاثنية والدينية، وفي مقدمتها الكورد والعرب في تل أبيض وقراها، تقع على عاتق حزب الاتحاد الديموقراطي وليس على كل الأحزاب الكوردية السياسية، التي نعلم عنها بالتأكيد رفضها الانزلاق إلى أي صراعٍ جانبي اليوم، والمعركة السياسية لها هي ضد نظام الأسد ومرتزقته وحلفائه وشبيحته فقط. 

 

وبناءً على هذا فإن أي اتهام للشعب الكوردي من خلال ما جرى سابقاً من مآسٍ دموية بسبب صراعات مسلحة في مناطق الجزيرة ومن أهم فصولها ما حدث في رأس العين (سرى كانيى)، وكذلك بالقرب من مدينة عفرين في منطقة جبل الأكراد (كورداغ) سابقاً، عار من الصحة ومردود، لأن الشعب السوري عامةً والكوردي خاصةً يرفض انحيازه عن معركته الوطنية الأساسية التي هي معركة سائر مكونات المجتمع السوري إلى معارك جانبية تضر بالنسيج الاجتماعي – الديني لهذه المكونات وتعود على شعبنا الكوردي خاصةً بمزيد من الدموع والدماء والخسائر المادية وتساهم في تأخير وعرقلة نشاطه من أجل رفع الظلم والعدوان عن نفسه.

ويعلم كل العقلاء بأن خرق الاتفاق يقتضي وجود الاتفاق قبل ذلك، فإذا كانت جبهة النصرة ومن ورائها  إمارة (أو دويلة) العراق والشام الإسلامية كما تم تصنيفهما عالمياً من المنظمات الإرهابية  والمتطرفة فكيف يعقد حزب الاتحاد الديموقراطي معهما اتفاقاً؟ وعلى أي أساس تم صوغه والالتزام به؟  ثم يعود الحزب للقول بأنه يقاتل اليوم ضد الإرهاب السلفي، الأردوغاني، المتخلف، المعادي للكورد وكوردستان.

 

هذه الاشتباكات جرت وتجري بهدف الاستيلاء على مناطق حدودية مهمة للغاية، مع التأكيد على الأهمية الاستراتيجية، من النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية، لسائر المنطقة الكوردية على طرفي الحدود بين تركيا وسوريا والعراق، وهذا ما يجعل من هذه الاشتباكات في منتهى الخطورة، كمن يشعل النار بالقرب من حقول قمح آن أوان حصادها، ولذا فإن مجرد التفكير في خوض معارك في هذه المناطق خطأ جسيم، سواءً المرتكب في الجانب العربي أو الكوردي، ونحن نعلم بأن الدولة الكبيرة تركيا، العضو في حلف الناتو، والتي لم تتحرك ضد نظام الأسد عسكرياً رغم اعتداءاته العسكرية المتكررة عليها ورغم كل تهديداتها وخطوطها الحمراء، فإنها لن تتوانى عن القيام بهجمات جوية وبرية على المناطق التي يشتد فيها ساعد الحركة التحررة الكوردية، سواءً في سوريا أو في العراق، وقد فعلت ذلك مراراً وتكراراً في جنوب كوردستان (كوردستان العراق!) منذ لجوء بعض قوات حزب العمال الكودستاني إلى جبل قنديل وسواه ضمن الأراضي العائدة لدولة العراق رسمياً.  والتصريحات اللامسؤولة التي يطلقها البعض من الكورد بصدد “قدرة الشعب الكوردي على التصدي لكل التنظيمات المتطرفة وتركيا من ورائها!!ّ!” ليست إلا بالونات دعائية إعلامية بهدف تقوية عزيمة المنخدعين ببعض أسباب القوة التي يمتلكها هذا الحزب الكوردي أو ذاك، فإن غرب كوردستان (كوردستان سوريا) ليس كما هو عليه شمال كوردستان (كوردستان تركيا) أو شرقه أو جنوبه، من حيث العمق الاستراتيجي والإمكانات والاستعداد التعبوي اللازم للتصدي لكل هذه القوى المتكالبة علينا مجتمعة.  كما أن المواجهة الكوردية “السورية” مع  الدولة التركية غير واردة كبرنامج سياسي عملي لأي حزبٍ كوردي سوري، ناهيك عن أن المرحلة التي فيها حركتنا التحررية الكوردستانية عموماً، ومن ضمنها حزب العمال الكوردستاني (الأم التي أنجبت حزب الاتحاد الديموقراطي) في سعي حميم من أجل السلام مع تركيا، وهي بحاجة إلى فترةٍ زمنية طويلة لبناء قواها الذاتية وحشد طاقاتها وكسب مزيدٍ من الأصدقاء، من العالم كله ومن الشعب التركي أيضاً، وليس الدخول في مغامرات تؤدي إلى تشريد ملايين الكورد السوريين وإفراغ  منطقتهم الكبيرة الممتدة من حدود العراق شرقاً إلى لواء الاسكندرون غرباً من القوم الكوردي.  ما حدث لشعبنا في شمال كوردستان من تهجير وتدمير اقتصادي، وكذلك من قبل في جنوب كوردستان يجب أن لايتكرر لدينا أيضاً.

 

لقد زعم مسؤولو حزب الاتحاد الديموقراطي على الدوام بأن مهمتهم الأولى هي حماية الشعب الكوردي والحرص على عدم تعريضه للخراب والدمار، وافتخروا بأن المنطقة الكوردية قد تحررت بصورة سلمية مدهشة، وحاولوا اقناع إخوتنا في أجزاء كوردستان الأخرى وكذلك العالم بأسره بما اعتبروه أكبر انتصار لشعبنا في غرب كوردستان، وليس من مهامهم الآن القتال ضد قوات النظام السوري، وبرروا بذلك امتناعهم عن الهجوم على مقرات وثكنات ودوائر أمن النظام في المنطقة الكوردية، حتى تماثيل الدكتاتور المقبور حافظ الأسد بقيت سليمة ومصانة في المدن الكوردية “المحررة!”… حسناً. أليس ما جرى في رأس العين سابقاً ويجري الآن في تل أبيض يعد انتكاساً فظيعاً ناجماً عن سوء تقدير المواقف والقوى والفصل بين الصديق والعدو وقلة خبرة في المجالين السياسي والعسكري؟ على الرغم من إدانتنا التامة لأي عدوانٍ على الكورد وقراهم ومدنهم من أي طرفٍ كان، وتحت أي لافتةٍ كانت، دينية أو علمانية، أفلا يتحمل الذين أعلنوا المنطقة الكوردية “محررة ومصانة” بقواهم القتالية مسؤولية فشلهم في كل ما حدث؟  ألم يدقوا منذ ظهورهم اسفيناً بينهم وبين مختلف فصائل الحركة الوطنية الكوردية بمواقفهم التسلطية والاستفراد بالقرار الكوردي؟ فكيف يطالبون الآن بأن تتحمل هذه القوى “الخائنة!” التي كانت تتهم في وطنيتها مسؤوليتها في الدفاع ويتم الاستنجاد بالشعب الذي تم إذلاله بصورة ممنهجة من قبل “أولياء الأمر” هؤلاء، كما حدث مراراً في عفرين وعامودة وكوباني؟  الشعب الكوردي لايقبل أن يستبد به أحد، سواءً أكان المستبد غريباً أو من أبنائه، كما لايقبل ذلك من أي جهة سياسية كانت، سواءً أكان زعماؤها وأنصارها ملتحون أو غليظو الشوارب أو بدون لحى وشوارب.، ولذلك فإن ماجرى هو عدم إسراع الحركة الوطنية الكوردية وتباطىء الشعب الكوردي لتلبية نداء الاستنجاد المنطلق من حناجر واسعة في حزب الاتحاد الديموقراطي لصد عدوان الإسلاميين المتطرفين على تل أبيض، على الرغم من أن صد أي عدوانٍ غاشم واجب قومي ووطني يقع على عاتقنا جميعاً، بغض النظر عن الخلافات السياسية والآيديولوجية. 

 

التهمة التي يخفي وراءها المعتدون المتطرفون وفي مقدمتهم أمراء جبهة النصرة الأسباب الحقيقية لهجومهم على حزب الاتحاد الديموقراطي من شقين: الأول هو أن الحزب خرق الاتفاق المعقود بينهما والذي يقتضي عدم إدخال المسلحين إلى المدينة، وهذا بالفعل  ليس ذريعة تؤدي إلى هجومٍ واسع النطاق ومدعومٍ بمختلف أنواع الأسلحة، حتى المدافع الثقيلة والدبابات، والثاني هو أن المهاجمين يعتبرون حزب الاتحاد الديموقراطي أداةً من أدوات النظام الأسدي، يحارب الجيش السوري الحر، ويدافع عن نقاط استراتيجية للنظام في المنطقة، وهذه الذريعة أيضاً غير مقنعة لأنه من الأولى استخدام هذا السلاح الكثيف للهجوم على قوات النظام ولمساعدة مدن محاصرة كما هو حال مدينة حمص مثلاً. ولكن من جهة أخرى، ليس الإسلاميون وحدهم يوجهون هذه التهمة إلى حزب الاتحاد الديموقراطي، وإنما عدد لايستهان به من الناشطين الكورد أيضاً، فلماذا يتم اتهام هكذا حزب كبير يعتبر نفسه جزءاً من قوى الثورة السورية  بالذات؟ ولاحاجة لنا بالدخول في هذه الغرفة المعتمة التي تمتلىء بالشكوك والظنون حتى لانظلم أحداً.

 

زعم أكابر هذا الحزب بأن الحق كان إلى جانبهم في أحداث مدينة عاموده الدموية المخزية، ثم اعترف أحد هؤلاء علناً بأنهم يتحملون المسؤولية عن حدوثها لأن “المدينة كانت تحت حمايتهم!”، فهل يتحملون المسؤولية عما يجري في تل أبيض أيضاً وفي كوباني وفي عفرين وما حولها، وهي كلها في حمايتهم؟  وهل يتحملون المسؤولية عن عقدهم اتفاقاً مع منظمة يعتبرونها إرهابية؟

 

 أطلق  هؤلاء تصريحاتٍ مثيرة عن اقدامهم على بناء “إدارة ديموقراطية ذاتية” خلال شهور قلائل قادة، وطالبوا الكورد بإبداء الآراء في مشروع دستور هذه الإدارة، على الرغم من أن الإدارات الذاتية أو المحلية لاتحتاج إلى دستور، وإنما الفيدراليات هي التي تحتاج لدساتير، وهنا أيضاً لم يستشيروا الحركة السياسية الكوردية ولم يدعوها لعمل مشترك في هذا المجال، ثم صدر عن “هيئة التنسيق الوطني” السورية، التي حزب الاتحاد الديموقراطي عضو فيها، بيان  يذكر أن مسؤولي هذا الحزب قد تبرأوا من هذا المشروع وأكدوا على أنه ليس مشروعاً باسم الشعب الكوردي. فكيف يصدر هكذا بيان بعد كل ما قيل ونشر عن هذا المشروع؟ بالتأكيد إن قيام حزب الاتحاد الديموقراطي بما يحلو له باسم الشعب الكوردي وبالغياب عن إرادته، بل وبدون فصائل حركته الوطنية الأخرى يؤدي إلى أخطاء جسيمة مضرة بشعبنا وقضيته العادلة.

 

وأخيراً،..

لابد من التأكيد على أن حماية الشعب الكوردي عن طريق تشكيل قوات مسلحة مسؤولية مشتركة تقع على عاتق مختلف الفصائل الوطنية لهذا الشعب، وأن إقامة إدارة ما، يحكم بها نفسه بنفسه، ضمن حدود الدولة المشتركة: سوريا، مسؤولية جماعية أيضاً، وكذلك فإن إقامة علاقات مع المعارضة السورية، الوطنية والديموقراطية والإسلامية المعتدلة، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار وجود هذا الكم الهائل من القوى السياسية الكوردية، كما أن الشروع في قتالٍ مع هذا أو ذاك يجب أن يدرس بعناية فائقة في أضيق الدوائر الكوردية الهامة، إذ أن شعبنا غير مستعد لزجه في معارك جانبية في هذا الوقت الحرج والخطير من تاريخ سوريا التي هو جزء أساسي من مكونات مجتمعه الفسيفسائي.

 

 

المثقفون الكرد … بعد خراب البصرة

جان كورد – ‏24‏ حزيران‏، 2013

(ن، والقلم وما يسطرون)

قد يسأل أحدنا عن دور المثقف الكردي في الثورة السورية أو فيما يجري اليوم على الساحة الكردية كجزءٍ لا يتجزأ من هذه الثورة، فيأتيه الجواب حالاً: ” ألا تراهم قد اجتمعوا في عاصمة إقليم جنوب كردستان (هه ولير) منذ أيام، وقرروا ما قرروا فيما بينهم، ووعدوا بأن تتوسع حلقات الاجتماعات واللقاءات حتى يصبح لهم شأن كما لتنسيقيات الشباب من وزنٍ في ميزان القوى الكردية.”

ولكن قد يرفع أحدنا يده ويطرح سؤالاً كهذا: “أنا مثقف من غرب كردستان وليس لي علم باجتماعٍ مثل هذا!!!” فينظر إليه سواه مستغرباً وهو يجاوبه بسؤالٍ أهم:” مثقف؟ منذ متى أنت مثقف؟ ألا تعلم أن للمثقف صفات وطبائع ومواقع ومواقف ونتاجات ومقاربات و… و… و…”

وهكذا نجد أنفسنا في مطحنة كبيرة مليئة بخليط من الأسئلة والأجوبة التي تعيق مشاهدتنا ومتابعتنا للمسلسل الحقيقي والمأساوي الذي تعرض حلقاته المليئة بالشجون والأحزان على ساحة المربعات والدوائر والمكعبات السياسية الكردية، منذ اندلاع الثورة السورية المجيدة وإلى الآن.

وعليه، يجب أن نجيب عن هذه الأسئلة بجرأة حتى ننتقل إلى مستوى أعلى في نقاشاتنا حول ما علينا القيام به للمساهمة في تخفيف وطأة الظلال المرهقة على كاهل شعبنا المظلوم:

–         من هو المثقف؟

–         ما طبيعة المثقف؟

–         ما موقع المثقف في الثورة السورية (ولنقل في مرحلة “تحرير غرب كردستان!” هذه!)

–         ما إمكانات المثقف؟

–         ماذا يريد المثقف من التنظيم السياسي الكردي، ومن قادة الثورة السورية؟

–         ما نقاط الضعف في المربع الثقافي الكردي؟

–         ماذا يريد التنظيم السياسي الكردي، وزعماء الثورة السورية من المثقف الكردي؟

–         ماذا أراد اجتماع هه ولير تحقيقه؟  ولماذا جمع عدداً قليلاً من مثقفي غرب كردستان؟

أعتقد بأن الإجابة عن هذه الأسئلة تقع على عاتق مختلف المثقفين والسياسيين والناشطين، ما خلا السؤال الأخير الذي يجب توجيهه إلى الفئة الداعية لذلك الاجتماع ومن وراءها من ممولين صرفوا مشكورين من وقتهم ومن مالهم لأهدافٍ لا نعلمها تماماً.

لا أريد فرض آرائي وطرح إجاباتي عن هذه الأسئلة الآن، بل أفسح المجال في ذلك للإخوة والأخوات الكرد الذين يهمهم أمر الثقافة القومية والشأن السياسي الوطني، وهم منشغلون في معظم أوقاتهم بتتبع أخبار الساعة في كل ما يتعلق بالكرد وغرب كردستان وإلى حدٍ كبير بما يحدث على ساحة الثورة السورية من جرائم متتالية بحق الشعب السوري وضد الإنسانية عموماً.

برأيي، المثقف الكردي أضعف، كفردٍ من أفراد هذا الشعب، وكفئة من فئاته المستنيرة، من أن يلعب دور اً قيادياً بعد خراب البصرة في “تحرير غرب كردستان” أو في إدارة الثورة السورية، على مستوى المربع الكردي، حيث هناك الأحزاب التي تطحن بعضها بعضاً بأساليب سياسية رديئة، وتقصي بعضها من هنا وهناك، بل تقتل من بعضها بعضاً موالين وأعضاء، وحيث هناك المافيات المسلحة، والفرق الأمنية (آسايش) بعربات الدفع الرباعي من انتاج مصانع كرداغ المخفية تحت الأرض، والتي عليها رشاشات ديكتاروف ولافروف وترفرف عليها رايات أنجولا وليتوانيا، المعدة سلفاً لقنص وسحق كل تجار “الحشيش السوري” في شمال البلاد، وبخاصة حشيش “أبو الذقن” المشهور بتنقلاته بين ( روخاريا وعفريت ) وبين (باب المندب وتل غزالة وعامودا)…

المثقف الكردي لا يستطيع الانخراط في التظاهرات وفي الهجمات على المطارات لأنه لا يملك تنسيقيات مثل ما يمتلكه الشباب، والمثقف الكردي لا يملك الأموال المنقولة وغير المنقولة ليؤسس بها “مؤسسة الفكر الكردي” أو أي حاضنة من حاضنات الثقافة القومية، فهو قادم من البراري وزائل بلا أثر سياسي فعال، حيث أثمان بيع كل الكتب التي نشرها لا تتجاوز المبلغ الكافي لتغطية مصاريف طبعها، وبخاصة فإن الذين يقرؤون الكتب الكردية أقل عدداً ممن يقرؤون بأي لغة منقرضة في العالم.

عزف المثقف الكردي على أوتار قيثارته الحركية مقطع قصير الأمد من مقاطع سيمفونية الحراك السياسي – الإجتماعي الكردي العام، وهو عالة مالية على أسرته إن تفرغ للكتابة، ومجهول حتى بين زملائه المثقفين أنفسهم، حين ينثر بعض الأثرياء دريهمات لكسبهم إلى صفوف جنده الثوار الذين يتقاضى عليهم “دفاتر” دولاراتية.

ولكن رغم هذا المعروف عن هؤلاء المستضعفين في الأرض الكردية، فالمثقف له دور وإمكانات ومواقف ومداخلات ومشاعر وتساؤلات، وقد قال أحد مجانين الشهرة السياسية يوماً بأنه عندما يلتقي بمثقف فإنه يتلمس مسدسه، وقال امبراطور مشهور بأنه يخاف صرير الأقلام أكثر من دوي المدافع، وكانت المدافع في عصره أهم الأسلحة التي ابتكرها العقل البشري واشدها فتكاً على الإطلاق، بل إن الله تعالى قد أقسم بالقلم في القرآن المجيد “بعد التعويذ والبسملة”: ((ن، والقلم وما يسطرون))، فلماذا خوف السياسيون والأباطرة من قلم المثقفين، إن لم يكن لهم تأثير في الشارع المدني؟ ولماذا يقسم رب العالمين بالقلم إن لم يكن مهماً…

في شتى أنحاء العالم غير المتحضر، يعاقب المثقفون عقاباً شديداً لحشرهم أنوفهم في مطبخ السياسة أو الدين، وحتى في البلدان المتقدمة يلاحق الذين ينشرون “الغسيل الوسخ” لحكوماتهم و”أسايشاتهم” وشلة سارقي خبز شعوبهم وبائعي قضاياهم المقدسة في سوق النخاسة ومن أجل مصلحة زعاماتهم، مثلما حدث لصاحب ويكيليكس ويحدث الآن لمن نشر أسرار مراقبة الحكومة الأمريكية لاتصالات مواطني بلادها وضيوفها، ومن المثقفين من يتم منحه جائزة نوبل للسلام وللحريات والحقوق، وهو في ظلام السجن في زنزانة انفرادية، ويلقى بذلك احترام البشر في كل مكان على هذه الأرض، ولذلك فإن معالجة مشاكل المثقفين الكرد والمداخلة بصدد ما يناقشونه، فرادى وجماعات، يجب أن يلقى منا جميعاً قليلاً من الاحترام، إن لم نتمكن من دعمهم ومؤازرتهم فيما يفعلونه ثقافياً وسياسياً ويكتبونه ويقولونه من وجهات نظرهم المختلفة بالتأكيد عن وجهات نظر غيرهم من البشر… ويستثنى منهم بالطبع من يبيع نفسه وكرامته وثقافته مقابل نيل ثناءٍ من أهل الحل والعقد، أياً كانوا ومهما كان جبل الكتب التي كتبوها شاهقاً، إذ أن رسالة المثقف هي عدم المساومة مع السياسيين ومستغلي الأديان وأصحاب السلطان الذين يركبون ظهور البشر ويتابعون استبدادهم واستغلالهم لمن دونهم بأي ثمنٍ كان، ومن ذلك الثمن الاضطرار لشراء بعض المثقفين وتسخيرهم كخدامٍ إعلاميين لهم كما فعلت بعض أحزابنا الطليعية التي تعرف كل شيء أفضل من الشعب، وكل ما تقوم به من سياسات صحيحة بانحرافاتها وتقلباتها وتوريطها شعبنا وقواه السياسية ومثقفيه في ورطة بعد ورطة…

لا للاستبداد في ثيابٍ كردية

Cankurd –  01.07.2013     http//:cankurd.wordpress.com      kurdistanicom@yahoo.de

Image

لدى العلامة الكبير المرحوم عبد الرحمن الكواكبي، صاحب كتاب “طبائع الاستبداد” في بداية القرن الماضي، الاستبداد هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق العامة (المشتركة)، ويشمل الاستبداد السياسي في نظره تصرف المرء أو الجماعة من الناس في حقوق القوم (المجتمع) بالمشيئة وبلا خوفٍ من تبعات أو نتائج. والاستبداد صفة للحكومة الشمولية المطلقة العنان في الفعل أو الحكم، وهي حكومة تتصرف في شؤون الرعية (المواطنين) كما تشاء بلا خشيةٍ من حساب أو عقاب يفرضه عليها محققون وقضاة ومشرعون، وأشكال الاستبداد كثيرة، وهو باقٍ ما لم يكن هناك خوف من مسؤولية.

وعلى ضوء هذه النظرات العلمية الثاقبة التي تنم عن معرفة دقيقة بأحوال وطبائع وأغراض وسلوك الاستبداديين، يجب أن ننظر حولنا في المحيط السياسي لغرب كوردستان، وبذلك سنرى وسنتحقق من أن هذه المواصفات، التي تبدو مثل “روجته طبية” أو مرآة دلنا إليها هذا لعالم الكبير، تنطبق على العديد، أو لنقل على كل أحزابنا الكردية التي لم يصل أي منها إلى الحكم بعد، حتى على مستوى محافظة واحدة، بل إنها محكومة تحاول إخراج رؤوسها من تحت الماء الذي يكاد يغرقها، إلا أنها مغرورة جداً بسياساتها وآرائها، متعالية على قبول النصيحة من خارج دائرتها التي رسمتها لنفسها من أهل الشورى المعلمة (غير الملزمة)، وهي مستبدة في مواقفها، ولا تتوانى عن طمس الحق العام في سبيل إعلاء كلمتها التي تظن أنها الحق والحقيقة، رغم فشلها التاريخي المزمن. وهذا الأسلوب في اتباع مسار العنترية الحزبية والاستمرار في الغطرسة السياسية باقٍ مع الأسف طالما قيادات هذه الأحزاب غير قادرة على تجديد نفسها ديموقراطياً وطالما ليس هناك ميزان توزن به أعمالها، ولا تخضع لسلطة تشريعية مدعومة بسلطانٍ تنفيذي يرغمها على الخضوع لدستورٍ ما أو قوانين معينة، فهي لم تعرف في يومٍ من الأيام مبدأ تحمل المسؤولية بموازاة الرضوخ للمحاسبة في حال فشلها في أداء واجبها.

إن الحزب الأقدر على التحكم بحقوق القوم الكردي اليوم، من بين الأحزاب العديدة الأخرى، من حيث امتلاك أسباب القوة والجرأة على المغامرة رغم الظروف الحرجة التي تمر بها سوريا الآن، هو حركة الآبوجيين التي تطلق على نفسها منذ اعتقال زعيمها في نهاية القرن الماضي اسم “حزب الاتحاد الديموقراطي”، وهي الحركة التي جعلت من شخصية زعيمها وتوجيهاته وحياته بأطوارها المتقلبة حسب ظروفه التي هو فيها نقطة المركز في دائرة أعمالها ونشاطاتها وسياستها، وليست تنظيمات الحركة المتراتبة تنظيمياً وقراراتها. وما يصدر عن هذه الحركة ما هو إلا أوامر وتعليمات معدة لها من قبل أركان حزب العمال الكردستاني الذي قيادته في سعي حثيث من أجل تنفيذ الاتفاق الذي توصلت إلى ابرامه الحكومة التركية مع زعيمه المعتقل عن طريق رئيسها جهازها الأمني المعروف ب”ميت”، وحقيقة الاتفاق وتفاصيله لاتزال خافيةٍ عن أعين الشعب الكردي حتى الآن.

مع مرور الأيام وبسبب فشل هذه الحركة الآبوجية في متابعة ثورتها المسلحة التي بدأت بها في عام 1984 في شمال كوردستان لأسباب دولية وإقليمية وذاتية لا مجال هنا الآن للحديث عنها، تنازلت عن كثيرٍ من طموحاتها وأفكارها وعقيدتها اليسارية الثورية، ولكنها حافظت إلى حدٍ كبير على أسلوبها الستاليني في التنظيم، وهي حسب المقاييس التي وضعها العلامة الكواكبي للاستبداد تتصرف استبدادياً حيال شعبنا في غرب كوردستان وتجاه ما انتظم بين هذا الشعب من قوى وأحزاب ومنظمات، سياسية وثقافية واجتماعية، والعلة الكبرى في ذلك أن ما يسمى ب”مجلس شعب غرب كوردستان” المفترض فيه أن يكون بمثابة سلطة تشريعية تراقب مسارات الحركة وحلفائها إن وجدوا، ما هو في الحقيقة سوى حلقةٍ من حلقات “التهريج الديموقراطي!” المبتكرة من قبل هذه الحركة، لإظهار نفسها كتنظيم مؤمن فعلاً بالديموقراطية، وهذا يعني عملياً أن لا سلطة للشعب على هذه الحركة، وعندما لا تكون هناك جهة برلمانية أو قضائية عليا تشرف على الحياة السياسية لشعبٍ من الشعوب، فإن السلطة الحاكمة تتحول إلى نظام استبدادي. وإن أول ما يقوم به إنقلابيون عسكريون في بلدٍ من البلدان هو إلغاء السلطة التشريعية أو البرلمان، والإسراع في تشكيل “مجلس شعب!” لا تراعى في بنائه الأصول الديموقراطية، وإنما يتم اختيار أعضائه على أساس الولاء للحزب والقائد، وهذا ما نعلمه جيداً عن نظام حزب البعث العربي الاشتراكي الذي حكم سوريا والعراق عقوداً من الزمن، وكان “مجلس الشعب” ولا يزال أحد أكبر أدوات السلطة الاستبدادية والضحك على ذقون الديموقراطيين في العالم.

إن إيغال الآبوجيين في غرب كوردستان في التصرف حسب أهواء زعمائهم ومن خلفهم وعلى ضوء مصلحة حركتهم على حساب المصلحة العامة للشعب الكردي والمصالح المشتركة للأحزاب الوطنية الكردية، واعتبارهم سياستهم الازدواجية حيال الثورة السورية المجيدة هي الحق والحقيقة والمصلحة الأساسية لشعبنا، واتهام ما يخالف أهواءهم وسياستهم بالخيانة والرجعية والانحراف عن مسار الثورة الأممية التي يعتبرون أنفسهم نجومها، طامة كبرى ستأتي بالنتائج السلبية لهم ولشعبنا في المستقبل القريب، إن لم يتراجعوا عن هذا الاستبداد الشمولي الذي يمارسونه حيال شعبنا وحراكه السياسي العام.

لقد آمنت هذه الحركة الآبوجية بمنطق القوة، وأبدت استعدادها لتحمل مسؤوليةٍ تاريخية في غرب كوردستان، وهذا حق طبيعي لها، ولكنها شكلت  لوحدها “قوات حماية الشعب” المسلحة تسليحاً جيداً مجهول المصدر، ووضعت تحت تصرف هذه القوات أعداداً ضخمة من الشباب الكردي، حتى الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم سن البلوغ، وانتزعتهم من مدارسهم ومن مجال مساعدتهم لذويهم في هذه الظروف المعيشية الصعبة، وهؤلاء الأطفال يتفاخرون بأسلحتهم الثقيلة في عرباتٍ رباعية الدفع “من انتاج مصانع كورداخ وكوباني وعامودا!”، حصلوا عليها من دون أي اشتباكات مسلحة مع قوى النظام الأسدي، سوى بعض المسرحيات المدبرة بخطة محكمة حيث جرى فيها تصادم، لم يلجأ فيها النظام إلى قصف مقرات الآبوجيين بالطائرات ولم تسقط فوق رؤوسهم قذائف كيميائية أو براميل متفجرة، بخلاف ما يقوم به النظام حيال “المتمردين!” السوريين الآخرين.

وهكذا صارت حركة الآبوجيين قادرة على “إدارة غرب كوردستان ذاتياً”، إلا أنها لم تجعل من “مجلس شعبها” سلطة تشريعية بل أداة سياسية تبريرية لما تقوم به من ممارسات استبدادية، كما جرى حيال مظاهرة النساء في عفرين، حيث تم قمعها بأساليب بعيدة عن الديموقراطية وأقرب إلى سلوك الغاب، وكما جرى في هجوم قواتها الأمنية على قرية تل غزال في منطقة كوباني أو في مدينة عامودا التي دفعت أحداثها بشعبنا إلى التصدي لهذا الاستبداد. وحيث لا تحاسب الأحزاب ولا تسأل ضمن برلمان أو مجلسٍ منتخبٍ من الشعب تستمر النظم الشمولية في التحكم والتسلط، ومنها ما يلغي الحياة البرلمانية الحقيقية لفترةٍ طويلة من الزمن.

إن هذه (الجرائم ) التي ترتكب حيال شعبنا في غرب كوردستان من قبل سلطة الآبوجيين ومن وراءها من قوى، بذريعة “حماية الشعب الكردي من الخطر السلفي القادم!!!) ما كانت لتصل إلى هذا الحد من الامعان في الاستبدادية، مالم ترتكب الحركة السياسية الكردية أخطاءً جسيمة في السنوات الأخيرة الماضية، فهي التي اعترفت، دون الرجوع إلى الشعب، بما يسمى ب”مجلس شعب غرب كوردستان” الذي أظهره الآبوجيون وكأنه منتخب من قبل شعبنا كله أو أكثره، وهذا عارٍ عن الصحة، بل انه انتخب من قبل أنصار حزب العمال الكردستاني وحده، واتفقت الأحزاب الكردية السورية مع “مجلس الشعب!” هذا، في حين كان يجدر الاتفاق في حال الضرورة القصوى مع الحزب الذي أسس هذا المجلس، ألا وهو في هذه الحال “حزب الاتحاد الديموقراطي”. وخطأ أحزابنا يكمن في أنها لم تفسح المجال لضم حزب الاتحاد الديموقراطي إلى صفوف “المجلس الوطني الكردي” ثم اضطرارها لقبول الجلوس مع صنيعه “مجلس شعب غرب كوردستان” تحت ضغط المثلث الكردستاني (الديموقراطي، الاتحاد الوطني، العمالي) الذي زواياه وأضلاعه في (أربيل، سليماني وقنديل)، وهو مثلث خاضع الآن لتأثيرات إقليمية من محاور مختلفة تتضارب مصالحها في كل شأن إلا الشأن الكردي. فكان تأسيس “الهيئة الكردية العليا” التي لم تخضع هي الأخرى لسلطة تشريعية بأيادي الشعب الكردي وتحت رقابة ممثليه المنتخبين، وبذلك لا يمكن ارغام الهيئة أو المجلس على قبول المساءلة والمحاسبة وفرض عقوبة ما عليهما.

القول بأن الظروف الحالية لا تسمح بالقيام بانتخابات ديموقراطية دجل سياسي، فكيف تم تشكيل “مجلس شعب غرب كوردستان”، أكان ذلك ديموقراطياً؟ أم غير ديموقراطي؟ فإن كان انتخابه ديموقراطياً فهذا يعني أن الأحزاب الكردية مجتمعةً ستؤسس مجلساً أكثر قرباً من الواقعية والديموقراطية، وإن لم يكن ديموقراطياً ومن قبل الشعب كله، فلا كان هذا الجسر ولا كانت هذه المراوغة التي يتم نشرها ك”مجلس منتخب من الشعب”.

إن ما كتبه العلامة الكبير عبد الرحمن الكواكبي جدير بالاهتمام وعكس تصوراته واستنتاجاته الدقيقة هو الاستبداد، وقد يقول البعض منا بأنه كتب ذلك في زمنٍ سابقٍ لما نحن فيه الآن، فالجواب هو أن الزمن لا يغير من طبائع الحكومات وإنما وعي الشعوب وإيمانها بأنها هي مصدر كل السطات وليس أهواء ومصالح أفرادٍ أو جماعاتٍ منها.”

الحل موجود، والطريق ليس سهلاً، ولكن لابد من سلوك هذا الطريق لإنهاء معاناة شعبنا في غرب كوردستان، وذلك يحتاج إلى مقالٍ طويل حقاً.

تكريد صراعٍ إقليمي أم منافسة حزبية رديئة

جان كورد – 2013‏

لا يختلف اثنان على أن الصراع في سوريا يسير في اتجاه الصراع الإقليمي الأخطر والأوسع والأطول، وستنعكس نتائجه السلبية على سائر دول المنطقة، وعلى شعبنا الكردي أيضاً، لأنه يعيش في المنطقة ولا يستطيع أن يعيش بمنأى عما يجري حوله من أحداثٍ لها خلفيات سياسية واقتصادية وعقيدية. وأشك في فهم واتزان أولئك الذين يزعمون بأن وضع شعبنا مختلف وبأن قياداته الحزبية قادرة على النأي به في هذه الأوضاع الخطيرة، وبخاصة فإن الاتجاه صوب اقتتالٍ طائفي وديني وسياسي بات سمة المرحلة الجديدة التي تواجه السوريين بعد الآن.

في هذا الصراع الدموي الكبير ثمة محاور إقليمية تقف وراءها أو تحركها قوى دولية تملك إمكانات تعبئة ودعاية عظيمة، ولها تداخلات وتشابكات عبر منظمات دولية تمتلك فيها من الحقوق ما لا تمتلكها الدول الأضعف، كحق الفيتو في مجلس الأمن مثلاً. وهذه المحاور المدعومة من قبل قوى دولية مؤثرة، ويمكن تحديدها بالمحور الإيراني والمحور التركي والمحور الإسرائيلي والمحور العربي، تلقي بظلالها على الساحة السورية وتؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في مسار الأحداث، وفي حين يدعم المحور الإيراني والإسرائيلي بقاء النظام السوري واستمراره في الدفاع عن قلاعه العسكرية في العاصمة دمشق وبعض أرجاء سوريا إلى حدٍ ما، بل إن إيران متورطة عسكرياً بذاتها وعن طريق مرتزقتها العراقيين واللبنانيين في الحرب المعلنة من قبل النظام على الشعب السوري، فإن المحوران التركي والعربي يدعمان المعارضة السورية باختلاف كياناتها الديموقراطية والوطنية والإسلامية (المعتدلة والمتطرفة) بهدف اسقاط النظام الأسد أو فرض شروطها عليه في حال عدم تمكن المعارضة السورية المسلحة من التخلص من الأسد وبطانته الإرهابية الموغلة في الجريمة ضد الإنسانية.

الأحزاب الكردية / الكردستانية لم تنخرط بعد في صفوف “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” وهو آخر ما تحقق من تحالفٍ وطني سوري على مستوى الفعاليات السياسية، كما لا نجد لهذه الأحزاب وجوداً واضحاً ضمن تشكيلات “الجيش السوري الحر” وضمن التنظيمات الإسلامية المسلحة، وهذا الجيش الحر هو أهم القوى العسكرية للمعارضة السياسية السورية، إلى جانب التنظيمات الجهادية، وهذا يعني أن الأحزاب الكردية قد حاولت النأي بالنفس عن المساهمة في القتال وفي النضال السياسي ضمن التشكيلات التحالفية السورية، لأسباب:

– الأول هو الاعتقاد السائد في قيادات هذه الأحزاب بأن في مقدورها الاستمرار في النأي بالنفس عن الدخول في نزاعات مسلحة ظلت بعيدة عنها على الساحة السورية منذ تأسيس أول تنظيم سياسي كردي سوري، الحزب الديموقراطي الكردستاني – سوريا في عام 1957

– رفض كل التشكيلات السورية المعارضة منح الشعب الكردي حقه القومي العادل في إدارة ذاته ذاتياً ووقوفها عند حد “حق المواطنة” المتساوية مع سائر مواطني البلاد دون الاعتراف بحق هذا الشعب في تقرير المصير، حسب القوانين والمواثيق الدولية، ودون أي اعتبار لكون هذا الشعب يشكل التركيبة الاثنية الثانية في البلاد.

– ضعف هذه القيادات وفشلها في إظهار القوة السكانية والسياسية والقتالية والدبلوماسية للشعب الكردي كطرفٍ لا يمكن إهماله وتجاوز وجوده وحقوقه على الساحة السورية، على الرغم من كثرة المحاولات الكردية لإقامة التحالفات الداخلية والهيئات المشتركة بين أحزاب الكرد الوطنية الديموقراطية.

– الارتباط العضوي المتزمت بعناصر أقوى على الساحة الكردستانية خارج سوريا، وهذه العناصر القوية داخلة في محاور إقليمية أو واقعة تحت ضغوطها وتأثيراتها، وهي فيما بينها إما متنازعة وإما متقاربة، حسب الظروف الإقليمية في المنطقة والمتغيرات على الساحة الكردستانية. وهنا لابد لنا التوضيح بأن المثلث الكردستاني الشهير (الحزب الديموقراطي الكردستاني -الاتحاد الوطني الكردستاني -حزب العمال الكردستاني) أشد فعالية وتأثيراً في المواقف الكردية السورية حيال مختلف المسائل من تأثير أي حزبٍ سوري عليها، وهذه حقيقة يجب عدم إهمالها من قبل المعارضة السورية، وكما هو تأثير إيران في حزب اللات اللبناني أو تأثير عامة الإخوان المسلمين العرب في جماعة الإخوان المسلمين السورية، فإن لحزب العمال الكردستاني ذات التأثير الفعال في “حزب الاتحاد الديموقراطي” السوري الذي يعتبر  أحد أهم التشكيلات السياسية المنظمة على الساحة في غرب كوردستان.

وحيث ان المثلث الكردستاني في أربيل والسليمانية وقنديل هو الذي يستطيع املاء شروط أضلاعه على الحركة السياسية في غرب كوردستان، وهذا ما أدركته قيادة “المجلس الوطني السوري” في ظل رئيسها الدكتور برهان غليون، فقد حاول المجلس كسب الأحزاب الكردية “السورية” عن طريق اقناع الكردستانيين بضرورة ممارسة ضغوطهم على هذه الأحزاب. والمحاولات في هذا المجال لا تزال مستمرة.

ولكن يجب عدم تجاهل دور المحورين الإقليميين المحيطين بإقليم جنوب كوردستان من طرفي الشرق (إيران) ومن طرف الشمال (تركيا)، إضافة إلى أن حكومة السيد نوري المالكي في بغداد متحالفة تماماً مع إيران، في حين أن المعارضة متحالفة حالياً مع تركيا، وأن هذا الوضع وإن كان يسمح بقليلٍ من الاستفادة لتضارب مصالح المحورين استراتيجياً في المنطقة، فإنه يؤثر سلباً على حركة وحرية المثلث الكردستاني المتقارب ضمناً في اتخاذ قراراته وتحديد مواقفه، ليس على صعيد الإقليم الكردي في العراق فحسب وإنما على الصعيد الكردستاني أيضاً، وبالتالي لن يكون هذا الوضع مفيداً لأحزاب غرب كوردستان، بل إن أحزابنا تكتشف مع الأيام أن محوري إيران وتركيا يؤثران سلباً وبقوة في مواقف الإخوة الكردستانيين، ومثالنا على ذلك هو أن موقف حزب الاتحاد الديموقراطي من حكومة أردوغان والعلاقة معها، بل ومن الأردوغانية كفكر سياسي أيضاً، قد تغير فجأة بمجرد الاتفاق الذي جرى بين زعيمه السيد عبد الله اوجالان ورئيس المخابرات التركية هاكان فيدان بصدد “السلام المأمول” في شمال كوردستان وتركيا. وبالتأكيد فإن أي صراعٍ علني بين أحزاب المثلث الكردستاني سيؤدي إلى انشطارات كردية سورية عميقة، كما حدث في الماضي باستمرار.

ما يقال عن تنافس سياسي طبيعي بين أحزابنا في غرب كردستان ليس إلا هراءً، فالتنافس لن يكون طبيعياً إلا بتواجد ظروفه الديموقراطية التي تسمح بالانتخابات واستطلاعات الرأي العام والدعاية العلنية بشتى الوسائل الإعلامية بهدف كسب أصوات وقلوب المواطنين، فالتنافس لا يتحقق من خلال الترويع والترهيب الذي تمارسه بعض القوى ضد بعضها الآخر، وبالاستيلاء على الطحين المرسل كمعونات إلى فقراء الكرد وبفرض الاتاوة كزمن العثمانيين حتى على الأشجار والخراف… ولربما الدجاج أيضاً.

أنا لا أرى سوى شيءٍ بسيط من التنافس الحزبي الرديء وغير المنتج، وذلك لأن أحزابنا في غرب كوردستان ليست مستقلة في قرارها السياسي، بل هي تابعة لأحزاب كردستانية داخلة في عباءة محوري إيران وتركيا، ليس اليوم فقط وإنما تاريخياً أيضاً، وبقدر ما تزداد الصراعات الإقليمية حدةً على الساحة السورية التي نحن جزء منها الآن، شئنا أم أبينا، فإن تأثير المحاور الإقليمية، وبخاصة محوري إيران وتركيا، في مجمل الحراك السياسي الكردي، سيظهر بوضوحٍ أشد. وبالتالي فإن انخراط الكرد في هذه الصراعات العنيفة سيقود أحزابنا إلى “تكريد الصراع الإقليمي” الذي شرعنا نلاحظ مقدماته، حيث المحور الإيراني المدجج بالسلاح والمال والتقنيات الإعلامية، يحقق تقدماً ملحوظاً على الساحة الكردية، من خلال انتهاج بعض أحزابنا سياساتٍ تتقارب مع سياسة واستراتيجية هذا المحور، بصدد سوريا وبصدد المشاكل المختلفة في المنطقة.

فماذا سيحدث إن بدأ المحور التركي أيضاً في تقديم المال والسلاح والدعم الإعلامي – السياسي لأحزابٍ كردية “سورية” بشكل مباشر أو عن طريق أحد أضلاع المثلث الكردستاني؟ ألن نجد أنفسنا في معمعان “تكريد الصراع الإقليمي”؟ أم سنسمي هكذا مصادمات على الساحة الكردية مجرد “منافسة حزبية!”؟

ضبط الشعب الكردي كردياً

جان كورد –  ‏18‏ حزيران‏، 2013

كان هكذا عبر التاريخ كله، فالإمبراطورية الفارسية التي نشأت وقويت على أكتاف الكرد الميديين صارت مع الأيام تضبط الكرد عن طريق أمرائهم المختلفين منذ ذلك الحين، بل الكرد مختلفون ومشتتون ومحكومون من قبل أمرائهم التابعين حتى إلى ما بعد تأسيس ما أطلقوا عليه ظلماً وعدواناً اسم “الهيئة الكردية العليا” في غرب كوردستان،

وكذلك الأمويون العرب والعباسيون الأخلاط الذين جاء لهم المغامر الكردي أبو مسلم الخراساني بالعرش والتاج المخضبين بدماء الأمويين المذبوحين في بلاطهم، ونقل عاصمة الدولة الإسلامية من دمشق إلى بغداد بحد السيف، فتمت مكافأته بقتله غدراً في مربض خيل، ولسان حال أحد شعرائهم يلوك أكذوبة تاريخية، حيث يقول:

أفي دولة العباس أردت غدره             ألا إن أهل الغدر آباؤك الكورد

فلو كان أبو مسلم غادراً لما وضع حياته في الخطر من أجل العباسيين، الذين كان الناس يعتقدون بأحقيتهم في حمل أمانة الخلافة لقرابتهم بالبيت النبوي الشريف. هؤلاء العباسيون الذين كانوا ينحرون بعضهم ويغتصبون العرش عنوةً من أبناء قومهم وعشيرتهم، كانوا في الوقت ذاته قادرين على اخضاع كوردستان برمتها بذات الأساليب الماكرة التي اتبعها الفرس من قبل ظهور الإسلام ومجيء العرب من جزيرتهم إلى ما سموه ب”العراقين العربي والعجمي”. حتى أن السلطان الكردي الكبير الناصر صلاح الدين الأيوبي هازم كل الجيوش الصليبية ومحرر الكثير من قلاع المسلمين بعد احتلال دام عقوداً من الزمن وفاتح بيت المقدس، كان يتبع في ولائه سلطان العباسيين، ولو كان اسمياً وشكلياً، وإلا فإنه كان سيتعرض لعداوة أمراء الكرد الذين بايعوا الخلفاء العباسيين على السمع والطاعة، كرهاً أو طوعاً، ولكنهم فيما بينهم ظلوا متناحرين ومتحاربين، وكأنهم كانوا مجرد همزة وصل بين الفشل التاريخي للكرد وفشلهم الذي لايزالون يتخبطون فيه حتى اليوم وكأنهم في حلمٍ مرعب. فنقلوا فيروس الاختلاف والخصام من أجدادهم الميديين إلى الأحفاد فيما بعد القرن العشرين، عصر التنوير والحريات والوعي، إلى الأمناء العامين والسكرتاريات العظيمة الشأن لأحزابنا التي تتصدى لكل عمليات الارغام على التوحد والاتحاد، فالوحدة تبدو كجريمة كبرى بحق “التعددية” التنظيمية ولو كنا لا نرى ذلك مدوناً في برامجهم، ومن بعيد تبدو تنظيماتهم كالقباب البيض التي تراها أعين الناظرين جميلةً من بعيد، ولكن ليس بداخلها سوى مقابر تحوي عظاماً نخرة تفوح منها روائح كريهة من التمزق والرياء والنفاق والتدافع والغطرسة ووضع المصالح الشخصية فوق مصلحة الشعب الكردي، رغم مرورنا في مرحلةٍ تاريخية حرجة قد تؤذينا فيها نوائب الدهر أذى بليغا.

العثمانيون كانوا أبرع من الفرس والعرب في تقسيم الكرد وتحطيم قواهم وفي ربطهم بعرشهم السلطاني الذي اغتصبوه من غيرهم من المسلمين، وكأنهم تلقوا سائر فنون السياسة والمراوغة والحنكة في الإدارة، على الرغم من أنهم كانوا مجرد رعاعٍ وناهبين، اغتصبوا بلاد الكرد والأرمن واليونان والبلغار والليديين واللاز والتات وسواهم من الشعوب من قبل. من خلال هجماتهم الدموية التي كانت تحرق الأخضر واليابس، منذ أن انطلقوا غزاةً كالسيل الجارف من بلادهم في آسيا الوسطى، يدمرون كل ما مروا عليه من مدنيات وعمران بشري ويخنقون كل الحضارات التي أقامها البشر في طريقهم.

كان العثمانيون يلعبون بعقول الزعماء الكرد ويدغدغون أحلام بعضهم فكسبوهم الواحد تلو الآخر وزجوا بهم في حروبهم على بلدان أوروبا الشرقية، حتى وصلوا إلى بوابات العاصمة النمساوية فيينا، مستخدمين سلاح الدين للتغرير بالكرد وللتنكيل بالمعارضين منهم، ولاتزال إحدى القلاع في وسط بلاد المجر تدعى “كردو”، ذلك لأن الكرد كانوا في الصفوف العثمانية الأولى ورأس حربة “الفتوح الإسلامية” خلال كل حكم العثمانيين الذين عملوا من أجل ديمومة السيادة لبني قومهم التركي على العالم الإسلامي، بدليل أنه لم يصل إلى مرتبة السلطان أي فردٍ غير تركي طوال عمر ذلك الحكم الذي دام قروناً من الزمن. أما الكرد فقد كانوا “فرسان الشرق” ووقود المعارك، وفيما بينهم كانوا يخضعون لأمراء تابعين للصدر الأعظم يحركهم كيفما يشاء في خدمة آل عثمان.

دخل الفرنسيون والانجليز والروس المنطقة الشاسعة ما بين بحر قزوين وباب المندب والبحر الأبيض المتوسط، ولم يتمكنوا من إخماد “الفتن!” وتحريك “الثورة العربية” ضد العثمانيين إلا بتطبيق سياسة “فرق تسد”، وما كان للإنجليز أن يضبطوا القبائل والعشائر الكردية الثائرة في جنوب كوردستان دون تسخير بعض الزعماء الكرد الخونة للقتال ضد الشيخ محمود الحفيد البرزنجي الذي أعلن نفسه ملكاً على كوردستان بعد اتفاقية سيفر في عام 1920، أو قبلها بعام، تلك الاتفاقية الدولية التي أقرت حق الاستقلال للشعب الكردي عن دولة “الرجل العثماني المريض”، ثم هبت الرياح بعكس المصالح القومية الكردية وبسبب خيانة كثيرين من زعمائهم وسعي أكثرهم للقضاء على نفوذ منافسيهم من بني قومهم، فحلت اتفاقية لوزان في عام 1923 محل اتفاقية سيفر، وقضي الأمر بالنسبة لمشروع الاستقلال الكردي، مثلما توصل بعضهم منذ فترة وجيزة إلى اتفاقٍ لا ندري عنه إلا القليل مع رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، من نتائجه ضبط الشعب الكردي ضبطاً محكماً ودفن فكرة “الاستقلال الكردي” إلى الأبد، بعد أن فشلت كل القوى المحتلة لكوردستان في إصدار وثيقة الدفن تلك عبر العصور، رغم كل المذابح التي ارتكبوها بحق الشعب الكردي وحملات القمع والتشريد وفرض اللغات العربية والتركية والفارسية على أطفال الكرد، ومنع كل ما يمت إلى وطنهم “كوردستان” من ثقافة وتاريخ وطموح.

سعى شاه إيران والزعماء القومجيون البعثيون في كل من سوريا والعراق، خلال عقودٍ طويلة، إسوة بالعنصريين الطورانيين الكماليين في تركيا، للمساهمة في دفن الطموحات القومية الكردية وعملوا على ضبط الشعب الكردي كردياً، من خلال ابتكار قوى “كردية” لا تشوش على نضالات وكفاح الأمة الكردية فحسب، وإنما تحارب كل نهجٍ قومي وطني صحيح ومتجه نحو الأهداف الحقيقية والطبيعية لهذه الأمة. فكان نظام الجاش في جنوب كوردستان لا يختلف في كثيرٍ عن نظام الجيش الإنكشاري العثماني الذي كانت قوته الأساسية على أكتاف الكرد وبلغ في بعض المراحل التاريخية أكثر من 60 فرقة محاربة ومدربة تدريباً جيداً وخاضعةً للنظام السياسي – الديني العثماني بولاءٍ تام ونكرانٍ صارخ للقومية الكردية التي كانت تعاني من نهب الموظفين الترك وتتعرض لأشنع حملات الاستغلال والتمييز. ونظام الجاش الذي فشل على أثر استخدام صدام حسين للسلاح الكيميائي ضد شعبنا في عام 1988 في مدينة حلبجة، لايزال مستمراً في كوردستان بصورٍ مختلفة، وها هو أحد كبار الجاش السوريين الذي يتربع منصباً فيما يسمى ب”مجلس الشعب” الأسدي، يفتخر دون حياءٍ أو خجل بتبعيته للنظام الذي نكل بشعبه وتنكر لحقوقه منذ اغتصاب حزب البعث العنصري للسلطة في البلاد في عام 1963 بانقلابٍ مدعوم من جهاتٍ دولية معادية للشعب السوري، بل إنه يلقى الاحترام والتقدير من قبل زعماء “كرد وكردستانيين” ويتباهى أمامهم بعمالته، وتجري معه بعض مواقع “الحداثة والديموقراطية الكردستانية”  مقابلاتٍ شيقة ومثيرة وكأنه بطل من أبطال التحرير القومي في كوردستان.

لقد كان الهدف من نظام الجاش ضبط الشارع الكردي ومنع الشباب من الالتحاق بالثورة، وها هو الشارع الكردي يضبط كردياً اليوم، ليس في العراق هذه المرة، وإنما في سوريا وإيران وتركيا، من خلال من هم في خدمة الأنظمة، ولكنهم يحملون مختلف نياشين الثورة والأممية والتقدمية و”الديموقراطية الشعبية” ويدعون إلى السلام والحوار ورفض الثورة السورية المجيدة جملةً وتفصيلاً، بل إنهم أصحاب قوة لا يدري أحد كيف حصلوا عليها دون أي اشتباك مع النظام، ويزعمون أنهم حرروا جزءاً من كوردستان خلال أيامٍ معدودات من ثورتهم العارمة، بحيث يستحق رئيسهم شهادة أعظم قائد كردي على الإطلاق لتحريره شعباً ، دون إراقة قطرة دمٍ لجندي من جنود الدولة،  ولكنهم في الحقيقة قشرة البيض التي تحوي بداخلها سائر إفرازات النظام من فرض الهيمنة واختطاف المناضلين الكرد واغتيالهم وفرض الأتاوات ومنع رفع العلم القومي الكردي والتسلط السياسي ومحاولة بناء نظامٍ شمولي على رأسه مستفرد بالزعامة الأبدية وبقيادة الحزب الأبدي. فما الفارق بين نظام الجاش العراقي ونظام فرض “السلطة المطلقة” لحزبٍ من الأحزاب على مجتمعٍ بأسره؟ ليس هناك أي فارقٍ في المضمون، وليست الغاية سوى ضبط الشارع الكردي إلى أن ينقذ النظام عنقه من المقصلة التي أوقع نفسها تحتها بنفسه.

كل الأحزاب الكردية الوطنية الديموقراطية مشمئزة من الأوضاع السائدة، وكلها محاربة في وجودها وكياناتها، إلا أنها لا تكشف عن الحقيقة التي تقول:” إن نظام الأسد يستعين ببعض الأكراد لضبط الشعب الكردي اليوم مثلما استعان المستعمرون عبر التاريخ دائماً بقوى من الشعوب المستعمرة (بفتح الميم والراء) لتفتيت وحدتها وضرب قواها بعضها ببعض ولضبط المتمردين على سياساتها ولتصفية ثوارها،”

فلينظر كل واحد إلى نفسه ويحدد مكانه، أهو حقيقةً مع الثورة والشعب؟ أم مع إرهاب النظام وقمعه وشموليته ويطبق سياساته على الأرض بذريعة أنه يدشن للحكم الذاتي الكردي “الغامض حقاً” ويحمي الشعب المرتعب من هذه الحماية مع الأسف؟

إن من يجد نفسه في صف ثورة الحرية والكرامة في سوريا لا يدافع عن موقف النظام بصدد تسليح المعارضة السورية المسلحة، وإن من يرى نفسه جزءاً من هذه الثورة لا يأوي ضباط الأمن السوري ويداويهم سراً في القرى الكردية، ولا يساعد قوات النظام في قطع الطريق على الثوار السوريين، ولا يمارس القمع والاعتقال بحق المناضلين الكرد من الأحزاب الوطنية الديموقراطية ولا يستولي على قوت الشعب ولا يتصرف في البيت الكردي السوري وكأنه يمثل عظيم روما في البلاد.

إن الأخبار التي تردنا من مصادر مختلفة تؤكد كلها الشيء ذاته، مع الأسف، ألا وهو أن بعض القوى الكردية ليست إلا أداة ضبط كردية للشارع الكردي في خدمة النظام الأسدي الذي فقد الشرعية، وأن بعض من يتكلم باسم شعبنا اليوم لا رصيد له ويأخذ أوامره ممن هو أعلى منه شأناً في حزبٍ يفرض عليه سياساتٍ معينة بسبب ظروفٍ خاصةٍ به اقليمياً