التقيت منذ أيام قلائل وأنا في طريقي لالقاء خطبة ثورية عن سوريا المقاتلة من أجل الحرية والديموقراطية في فندقٍ من الدرجة الرابعة أو الخامسة، في مدينة تبعد آلاف الأميال عن أقرب موقع قتالي سوري للثورة ، فإذا بأحد معارفي المثقفين يظهر أمامي فجأة، مما أخافني حقاً، كان يدعى “بارق” لأن نظراته الثاقبة تشبه البرق، وكان من ذوي الأجسام الضخمة بالنسبة لي، ومعه كاتب كوردي شهير يدعى “عليم” كان قد شارك معنا مرة في حضور مؤتمر أنتاليا للتغيير الوطني قبل سنتين ونال على حضوره الخياني العرعوري مثلنا بعض صفعات التأديب الإعلامية من المثقف الذي يرافقه ومن سواه من أهل العقد والعزم، على الرغم من أن كاتبنا اللطيف حقاً لدماثة خلقه ورقة عباراته، إلا في الدفاع عن عقيدته السياسية، لم يدخل – حسب علمي – في أي حوارٍ مع المؤتمرين آنذاك، وظل طوال مدة المؤتمر خارج قاعات الكلام المنمق .. ولربما كانت عقوبته رسالة من قبل رفاقه لسواه بين الأتباع والأشياع الذين على خطه السياسي، حتى لايفروا من الصفوف، مثلما فر آخرون من قبل.
سألني المثقفان الناشطان كوردياً وأدبياً عما أنا عازم عليه، فذكرت لهما بزهو وافتخار أنني أريد “تصحيح المسارات وتوضيح الخيارات”، دون أن أنخرط في تركيب الإطارات لمعارضتنا السورية، فشد البارق أذني وقال بصوتٍ كالرعد:”تعال معنا يا عريعر …يا نويف… يا إسلاميست… يا الارهابيك، واحكي لنا عما قبضته من دينارات ودولارات وأويرويات على ما تكتبه ضدنا وضدنا سيدنا وضد ثورتنا من حكايات أسطورية، تعال نعطيك درساً في الثورة والأخلاق الثورية”
فاضطررت أن أذهب معهما، وإذا بنا في قاعة مظلمة، في وسطها شاشة سينمائية عظيمة تعمل بالبانوراما والصوت فيها “دولبي” والصورة تأتي بأبعادها الثلاثية وب”الهادى إم إي” أيضاً. ورأيت العجب العجاب حقاً، مما أنساني الإخوة المنتظرين قدومي إليهم ومنهم بعض الكاريكاتوريين الذين يلاحقونك بابداعاتهم الساخرة في حال تأخرك عن لقاء أحدهم دقائق معدودات فقط.
ما رأيته كان رائعاً حقاً، ومن ذلك فيلماً تاريخياً طويلاً عن الثورات الكوردية التي تميزت بمحاربة الكورد بعضهم بعضاً وهم في غمرة قتالهم ضد الأعداء من أجل حريتهم وحقوقهم، فرأيت سيولاً من دماء وشعباً بأكمله يهجر وطنه بسبب الحروب والتدمير الممنهج لبلادهم، ثم ظهور “صقور كوردستان” الذين تمكنوا من إيصال الثورة في عهدها الأخير، بعد عدة محاولات منهم للقضاء على “حمائم الكورد” إلى النصر المؤزر والانجاز العظيم الذي تحقق في برلمان أعتى الأعداء، ألا وهو قبولهم ب”استخدام اللغات غير التركية” في المحاكم، وعن حوارٍ لطيف بين رئيس مخابراتهم مع قائد ثورتنا العظيمة في معتقلٍ لهم. وهذا النصر الكبير سيقودنا إلى “استقلال كوردستان وتحرير الكورد” بالتأكيد. بل ما حاجة الكورد لاستقلال قومي رجعي عندما يحصلون على حقهم في استخدام لغتهم؟
كما أراني “الرفاق” فيلماً وثائقياً آخر، أقصر طولاً وبنوعية رديئة ، عن شبابنا وهم يقاتلون في غرب كوردستان، ليس ضد قوات الطاغية بشار الأسد وجيشه وشبيحته، وإنما ضد أعرابٍ أخطأوا في اتجاه مسار ثورتهم، فهاجموا مدينة “سرى كانيى” الكوردية على حدود تركيا عوضاً عن مساعدة إخوتهم الذين يقاتلون في ظروفٍ صعبة حقاً في مدينة حلب مثلاً، واعتبروا نجاحهم في المدينة الكوردية نجاحاً على “الإدارة الديموقراطية الذاتية” التي ليست إلا ابتكاراً امبريالياً يهدف إلى دفن الإسلام في بلادنا. وعندما حاولت الهمس بملاحظة حول ما يجري في هذه المدينة، وهي أن هناك قوى اقليمية ودولية تريد لطرفي النزاع المسلح الدمار لأنهما في نظر تلك القوى “منظمات غير مرغوب فيها”، شد البارق أذني ثانية وقال:”دع سخافاتك لنفسك، وحدد موقفك، فإما أنت مع ثورة الشعب الكوردي من أجل اقامة جمهورية ديموقراطية في شمال وغرب كوردستان وإما أنت مع نواف البشير والشيخ عرعور وبن لادن”،
وحقيقةً لم أدر ماذا أقول، إذ هناك بالفعل جبهتان متحاربتان اليوم في غرب كوردستان، كما يظهر للعيان بوضوح، على الرغم من أن الموضوع أكبر بكثير من عرعرة المدينة الكوردية بمعونة أردوغانية ومن محاولة اقناع الكورد بأنهم قاب قوسين من الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان في ظل من لايزال متهماً بأنه في خندق النظام ، وأنت كمواطن كوردي سوري رغم اقتناعك بعدم جدوى هذه الحرب وبأنها ستفتح أبواب الجحيم على شعبك، وأنك غير موافقٍ على السياسات الكوردية في هذه المرحلة الحاضرة، مضطر للاختيار بين احدى الجبهتين، جبهة الغرباء عن المنطقة ، ذوي اللحى الطويلة والنظرت المرعبة كما يصفهم “البارق”، الذين جاؤوا إلى المدينة الكوردية برعاية بعض زعماء العشائر العربية ممن لهم تاريخ حافل بالمواقف العنصرية ضد الكورد وكوردستان، وجبهة من يؤمنون حتى النخاع بأن خلاص الشرق الأوسط من الامبريالية المتحالفة مع الرجعية “الاسلامية” لن يتم إلا على أيدي أبيهم الروحي وهاديهم المنتظر، وكلا الطرفين يؤمنان بالعنف والقوة وفرض الرأي بهما على الآخرين، وهذا يعني أنك بين نارين، وأمرين أحلاهما مر، وأن عليك حمل السلاح في خدمة إحدى الجبهتين، كلاشينكوفاً كان سلاحك أم قلماً زهيد الثمن. ورحت أفكر وأنا على طريق عودتي إلى البيت وأنا أتلمس أذني التي عانت من الآلام بسبب فركها بأصابع قوية، ترى ما الموقف الأسلم والأجدر أن يتخذ في هكذا صراعٍ ليس للشعب السوري فيه ناقة أو جمل!!! كيف يمكن تقييم حرب على أطراف البلاد، بين آيديولوجيتين، خضراء وحمراء، والثورة السورية بحاجة إلى كل بندقية، وبخاصة في حلب ودمشق، بل هي بحاجة إلى كل طلقة وقذيفة، كما يقسم أمامي أوعبر شبكة السكايب كل مرة، أحد شيوخ العرب المؤيدين للسلام الأبدي بين العرب والكورد، فلم يقدني التفكير إلى موقف ألتزم به بجدية طوال الليلة اللاحقة لتلك المشاهدة الرائعة لفيلمين عن تحرير الكورد وتوحيد كوردستان واقامة الديموقراطية الذاتية والكونفدراسيون الأممي الشرق أوسطي، فأغمضت عيني في محاولة يائسة للنوم، فإذا بملاك في قامة نورانية يأتي إلي طائراً، وهو يقول:”أبشر يا كوردي… أبشر…!” فقلت لنفسي:”لعل أحدهم أعلن قيام دولة كوردية أو جمورية على غرار جمهورية الزاب عليها رحمة الله”، فقال:” أتعلم بأن تركيا التي تعتبر ثاني دولة من حيث القوة العسكرية في أكبر حلف عالمي (النيتو) قد فكرت في أمر غزو المناطق الشمالية من سوريا التي تسمونها بغرب كوردستان ولكنها أدركت خطورة ذلك، فالشعب الكوردي الذي تتقدمه أحزابه قد امتشق السلاح بكل أفراده، ولم يبق خارج الصف الكوردي الموحد سوى “عديمي الشرف والناموس” حسب التعبير الثوري على طول الخط عبر التاريخ، وفي ذلك دمار تركيا وهزيمتها الماحقة في الحرب، لذلك فقد أمرت جماعتها العرب من النوافين والبن لادنيين والعراعرة وعملاءها من المعارضين السوريين، عرباً وكورداً، بوقف القتال داخل مدينة سرى كانيى التي يكره اسمها الكوردي أقطاب المعارضة الديموقراطية، من وزن الدكتور هيثم الطالح، وطالبت تركيا منهم التوسل إلى الاستراتيجيين الكورد الذين يقودون الحرب على جبهتين في آن واحد، ضد قوات الأسد في سيناء ومضيق طارق، وضد قوات بن لادن في الجزيرة وحوض الفرات، عساهم يغفرون لهم جرائمهم ويكفون عن مساعيهم لافنائهم وتصفيتهم جسدياً ودينياً.” ففرحت طبعاً لأن تركيا القوية خافت من انتصارنا عليها، على الرغم من معاونة كثيرٍ من العربان الملتحين لها، وأمرت مرتزقتها من أبناء العشائر اليعربية بوقف القتال، هذا القتال الذي لا أرى فيه أي خدمة للثورة السورية أو لاقامة الديموقراطية الذاتية الكوردية، وانما أراه بمثابة “فل الحديد بالحديد” لاضعاف الطرفين معاً والمستفيد من ذلك هم أعداء الشعب السوري عامةً والكوردي خاصة، ولكن يبدو لي أن السلام الهش ينقطع باستمرار كجريان الكهرباء في مدن جنوب كوردستان، وهو سلام يستعيد فيه الطرفان الأنفاس وتجميع الطاقات للدخول في معارك أشرس وأسخن وأشد دموية وتدميراً… والحرب في هذه المدينة هي بين النظام السوري والحكومة التركية، وعلينا أن لاننسى أبعاد الشكر والامتنان الأسدي لهذه “القرية الصغيرة” في الدفاع عن ثورة “الممانعة والمضاجعة”، ضد اسرائيل ومن وراءها، فقليلاً ما يشكر الرؤساء كما نعلم، ثم سألت الملاك الوسيم النقي في مظهره ومقاله:” بالله عليك! أرني الحق حقاً والباطل باطلاً بإذن الله تعالى … هل نحن في ثورة ضد نظام الأسد الشقي المجرم بحق شعبه، أم في ثورة ضد تركيا التي تفاوض الكورد اليوم حتى ولو عن طريق رئيس مخابراتها الكوردي، فما عدت أدري إلى أين مسارنا الكوردي.” فقال مبتسماً وهو يحلق بجناحين خافقين فوق رأسي قبيل الوداع:”يبدو أنك بحاجة إلى فركة أذن أخرى من البوارق لأنك غير قادر على ضبط نفسك، فتطرح أسئلة تثير الزوابع!”
منذ ذلك الحين فهمت أنني الوحيد الذي لايعلم شيئاً عن شؤون السياسة الكوردية، ولذلك أسأل نفسي بين الحين والحين عما إذا كان علي بيع قلمي الناشف في سوق الساكند هاند في حارتي الشعبية، عسى أحد زعمائنا يشتريه ويقبلني في خدمته بقية عمري، وإن غضب علي بارق من البارقين فيدافع عني… أو أن أكسر قلمي وأحطم الكيبوورد العربي الذي أكتب به ما يجول في رأسي من خواطر ووساوس، وأدع الناقة التي تحملنا تسير حيثما تشاء وكيفما تشاء، فأرتاح أنا وأدع الآخرين الأعلمين مني يخططون وينفذون لأنهم بالتأكيد أقدر على الرؤية والتحليل والتطبيق فهم القادة المعصومون، الذين تقع على كاهلنا مسؤولية السير وراءهم بدون ابداء أي ملاحظة حتى يسقطون.
والسلام على من اتبع الهدى وخشي الرحمن بالغيب.