جان كورد
kurdistanicom@yahoo.de https://cankurd.wordpress.com https://www.facebook.com/madmiro1
29 أيار، 2012
. الدين وثورة الشعوب الايرانية
بنى رجال الدين الشيعة عبر التاريخ الإسلامي كليروساً خاصاً بمذهبهم الديني، اختلف عن الطرق الصوفية السنية في أنه متماسك بسبب تحصيل أموال التابعين أخماساً وأعشاراً، وأعرق تسلسلاً زمنياً، منذ ظهور اغتيال الإمام حسين (رض) وأشد مركزية في القيادة التي تسنمها الأئمة “المعصومون!”عن الخطأ، والذين جاؤوا لإكمال الرسالة التي “لم يكملها النبي محمد (ص)!” حسب زعم الخمينيين، في حين أن القرأن الكريم يعلن بوضوح أنه أكمل الرسالة وأدى الأمانة وهو في نظر المسلمين أخر نبي من أنبياء الله وخاتم الرسل. بل إن هذا الكليروس الديني يضع أئمة الشيعة (دون علماء السنة) في مرتبة أعلى من مرتبة الأنبياء والرسل.
لعب رجال الدين الشيعة دوراً هاماً للغاية قبل اندلاع ثورة الشعوب الايرانية ضد الشاه محمد رضا القاجاري في عام 1980 بزمنٍ طويل، وكانوا يتعرضون للاعتقالات والتعذيب والاغتيالات مثل اليساريين والقوميين الكورد وألاذريين والبلوجيين والعرب المطالبين بحقوقهم القومية، لأنهم كانوا يشكلون في نظر الشاه وأعوانه كتلة متماسكة لاتأخذ أوامرها إلا من أئمتها وليس من النظام الذي كان الكليروس الشيعي يعتبره مخالفاً لعقيدتهم وخارجاً عن الدين لرفضه مبدأ “ولاية الفقيه” ولسعيه تنظيم المجتمع الايراني حسب قناعته بأن الشاه (الملك) ممثل الله على الأرض يورث الملك لأبنائه من بعده، ويرى مثلما كان آبى بارويل يقول في عهد الثورة الفرنسية بأن الله الذي منح السيطرة على المجتمع لمن هو قائم على تطبيق قوانينه، جعل مواطن الدولة في ذلك الوضع الخاضع للأشراف والقواد، وأوجد طبقية المجتمع المحافظ من خلال ترابط الرغبات المختلفة، هو نفسه الذي لم يعطِ الراعي أو الحرفي حق الأمير الذي يتولى أمر المجتمع. والفارقبين حكم الشاه الايراني وما كان يقوله آبى بارويل هو أن الشاه لم يكن يطبق قوانين الله، التي اعتبر رجال الدين الشيعة أنفسهم مسؤولون عن تطبيقها، ليس على المجتمع فحسب وإنما على الشاه أيضاً.
وعوضاً عن شرعنة السلطة القائمة آنذاك من قبل الكليروس الشيعي، على غرار ما كانت تقوم به الكنيسة في اوروبا بصدد الملوك وتيجانهم، فإنه وقف مع الثورة، ففي حين أوجدت “شرعنة السلطة القائمة” مادةً خصبة للهجوم الحاد على سائر التنويريين، المطالبين بؤاد تلك السلطة وبناء المجتمع القائم على أسس الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، فإن رجال الحوزات العلمية الشيعية ساروا مع العلمانيين وطلاب الحريات في ايران، يداً بيد، لاسقاط حكم الشاه الذي اعتبروه مجرد عميل قوي بالسلاح والرجال والمال ولكنه ضعيف في قلوب الشعوب الايرانية.
كتب موريس ترنيك فون توندر، المدافع عن الحكم الملكي في 17/8/1790م بأنه إذا أحجمت الشعوب عن التعبير عن آرائها وفق القوانين، فلا يبقى ثمة مجال سوى للأسلوب المحزن، ألا وهو تحقيق الاستقرار عن طريق استخدام الحراب. ويبدو أن الشاه الايراني ومن بعده كثيرون من عشاق السلطة في العالم آمنوا بهذه الفكرة وطبقوها أيضاً، حيث مارسوا العنف الوحشي ضد الشعبن ولكن الشاه اصطدم بمقاومة عنيفة، ليس من قبل الديموقراطيين واليساريين فحسب، وإنما من قبل رجال الدين أيضاً، بينما وقف رجال الدين المسيحيون أثناء الثورتين الفرنسية والشيوعية مع الملوك والقياصرة ضد الشعب الثائر وضد التنويريين. وهنا يجدر ذكر دور آية الله الخميني (روح الله الموسوي!)، والعديد من علماء الشيعة، ومنهم مدافعون بشدة مثل الخميني نفسه عن فكرة “ولاية الفقيه” في توحيد صفوف المعارضة المدنية وتقويتها ضد الشاه وأعوانه.
المشكلة التي ظهرت مع نجاح ثورة الشعوب الايرانية، هي أن علماء الشيعة كانوا مؤمنين قبل ذلك النجاح الباهر بأن “الثورة الظافرة” التي ستؤدي إلى خلاص البشرية النهائي من الجور والعبودية ستكون على أيدي “الإمام المهدي” المنتظر، والذي لابد من انتظار عودته وخروجه من “السرداب المقدس!”، وآية الله خميني المنتصر على الشاه ليس ذلك الإمام، فاضطروا إلى ايجاد مخرج فقهي لايكذب دعواهم السابقة تلك، فقالوا بأن الخميني هو المقدمة وهو الوكيل لقائد الثورة، والثورة عالمية ذروتها في ايران، وما على رجال الدين الشيعي إلا توسيع دائرتها لتشمل العالم الإسلامي كله، ومن ثم بقية أنحاء العالم برمته. وبدؤوا بالعمل لتحقيق فكرتهم في تركيا السنية – العلوية وفي العراق الشيعي – السني، وفي لبنان المسيحي – الاسلامي – الدرزي، عن طريق دعم ما يسمى ب”حزب الله” في لبنان وتركيا و”حركة أمل” اللبنانية ومختلف الأحزاب الدينية الشيعية في جنوب العراق، مستفيدين من تواجد مركزين اساسيين للشيعة في العراق (النجف وكربلاء) ومن الزعم بأنهم داعمون لثورة الشعب الفلسطيني ضد اسرائيل و”الشيطان الأكبر وعملائه في المنطقة!”، وحققوا نجاحات في التشيع في سوريا المحكومة من قبل بعث عربي علماني.
نجحت الثورة التي كان وقودها الشباب من مختلف القوميات والمكونات الدينية بعد تقديم تضحيات عظيمة وبسبب تخلي الولايات المتحدة عن عميلها المطيع، فتم خلع الشاه وخروجه من البلاد، دون أن تحصل إنشقاقات عسكرية أو أن يمارس الايرانيون “مقاومة مسلحة” إلا في حدود ضيقة. وإذا برجال الدين قد تسللوا إلى مختلف قيادات الثورة، وشرعوا في فرض املاءاتهم على الديموقراطيين واليساريين وأبناء القوميات المنتفضة. ولاينكر أن بعض شيوخ السنة من الكورد والبلوج والعرب والآذريين قد ساهموا في الثورة بأقلامهم وخطبهم، ومنهم الأستاذ أحمد مفتي زاده والشيخ عزالدين الحسيني في كوردستان، ثم وجدوا أنفسهم مخدوعين من قبل آية الله الخميني، الذي كان قد وعد بمنح الشعب الكوردي حق تقرير المصير (خود موختاري) مثلما وجد الديموقراطيون واليساريون الايرانيون أنفسهم مضطرين لإفساح المجال لتولي رجال الدين أمور قيادة ايران فيما بعد نجاح الثورة، وليس أدل على ذلك من أن مركز آية الله الخميني في التراتب السلطوي الجديد بعد الثورة كان أهم بكثير من مركز رئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر، وها هو يئن حتى الآن في مقابلاته الباريسية بسبب انخداعه بوعود رجال الدين الذين استخدموه لتعزيز مكانتهم في صدارة العهد الجديد، وحولوا إيران مع الأيام إلى معتقل ديني كبير، بسبب ضيق رؤاهم المذهبية وتفسيراتهم العجيبة للنصوص القرآنية والأحاديت بأشكال لايقبلها عقل أو دين، واستغلالهم الارتباط الشعوري للمواطنين المؤمنين بأئمتهم التاريخيين لفرض دكتاتورية قمعية لاتتوانى عن التقتيل والتعذيب والتدمير، وبخاصة ضد الشعوب المطالبة بحقوقها في كوردستان وعربستان وبلوجستان وأذربايجان… لقد سجلت منظمات حقوق الإنسان أرقاماً قياسية لنظام الملالي الايرانيين في مجال الاعدامات لأسباب سياسية، منذ الثورة وحتى الآن. والمشكلة الكبرى تكمن في أن “تصدير الثورة” قد أخذ بألباب أتباع الخميني، ليس في ايران وحدها وانما في العراق ولبنان والبحرين وسوريا ومناطق أخرى في العالم الإسلامي، حيث يتواجد تأثير للحوزات العلمية الشيعية الممولة من قبل المركز الايراني، وبخاصة من مدينة قم التي تعتبر في نظر رجال الدين الشيعي أهم من العاصمة طهران بكثير.
لابد من الذكر هنا أن أبناء وبنات الشعبين العربي والكوردي، في العراق، وضمنهما أبناء القوميات الأخرى، قد سجلوا صفحات رائعة في الكفاح ضد نظام البعث الدموي الذي تولى قيادته المجرم الكبير صدام حسين، وجعل من فترة حكمه عهداً دموياً يقارنه البعض بحكم فراعنة مصر وجنكيزخان وبول بوت وبينوشيت وجنرالات أفريقيا الدمويين، وبخاصة أثناء انتفاضة 1991، وتلتمع أسماء رجال دين كبار في تلك الملحمة العظيمة مثل الإمام الصدر والامام الحكيم. ويبدو أن رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، تأثروا بالجارة ايران وثورتها تأثيراً عميقاً، وسعوا للثورة ضد صدام حسين الذي كانوا متفقين تماماً على أن حكمه خارج عن الإسلام ويجب محاربته بحزم. وحقيقة فإنني لاحظت على الشيخ عثمان عبد العزيز لدى إجرائي مقابلة معه في جنوب كوردستان بعد انتفاضة عام 1991م بأنه يشعر بمرارة وحزن لما آل إليه وضع العراق وكوردستان في ظل نظام البعث، وأنه رغم تقدمه في السن كان مستعداً لأن يجاهد على خط النار في مواجهة جيش صدام حسين، كأي بيشمركه كوردي (مقاتل يواجه الموت).
لاينكر تأثير الثورة الايرانية المباشر في جنوب كوردستان التي غالبية شعبها على مذهب السنة، ولو بدرجة أقل مما كان عليه الوضع في جنوب العراق، حيث الشيعة هي المذهب السائد هناك، وتأسست تنظيمات إسلامية مسلحة في كوردستان، ذات علاقات عميقة مع ملالي ايران، وشرعت في محاكاة “حزب الله” و”الصدريين” وسواهم، وتشربت أفكارهم إلى حدٍ ما، على الرغم من أن زعماءها كانوا من السنة وليس من الشيعة، وإن عدداً لايستهان به من أهل السنة في شمال كوردستان، كانوا قد بايعوا آية الله خميني الشيعي في فترة ما بعد الثورة الايرانية،على الرغم من عدم وفائه بوعده للشعب الكوردي بصدد ال(خود موختاري)، وإعلانه لجنوده وللباسداران (أشبه بالشبيحة السورية في نظام الأسد السوري) بأن مفتاح الجنة في كوردستان، بمعنى أن الذي يقتل على أيدي المقاتلين الكورد، في حرب نظام الملالي على شعبٍ يريد حريته، يدخل الجنة شهيداً.
. الدين وثورات الربيع العربي
شارك في هذه الثورات العرب والأمازيغ والكورد وسواهم، لذا يكون أقرب إلى الصواب إن أطلقنا عليها اسم “ربيع الشعوب”، عوضاً عن “الربيع العربي”، ولكن التعريب سائد في مختلف المجالات لسوء حظنا، فالحضارة الإسلامية صارت كلها”حضارة عربية” وكل علماء المسلمين، حتى في ايران وأفغانستان، يعتبرون عرباً، في حين أن العنصريين الترك يعتبرون كل من دخلوا تحت عباءة الدولة العثمانية أتراكاً… وهكذا فالكورد والامازيغ ليس لهم شيء كما يبدو في التاريخ الإسلامي.
انطلقت ثورة ربيع الشعوب نتيجة احتقان سياسي طويل الأمد، بشرارة النار التي أحرق بها الشاب التونسي (البوعزيزي) نفسه، حيث لايقل انتحاره أهمية تاريخية للعالم العربي عن هجوم الشعب الفرنسي على سجن الباستيل في مطلع الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر. وتونس دولة عربية سنية على العموم، كانت فيها معارضة ديموقراطية ويسارية مشتتة، ضد نظام زين العابدين بن علي، الذي حكم تونس حكماً أمنياً صارماً لمدة 23 عاماً، وبجانب المعارضة الديموقراطية واليسارية كان ثمة معارضة أخرى، إسلامية، قوية وأشد تماسكاً من الأولى، تتمثل في حزب النهضة الذي يقوده منذ عام 1981م الشيخ راشد الغنوشي (71عاماً)، هذا الحزب الذي يمكن تصنيفه كفصيل من حركة “الإخوان المسلمين” الشهيرة، التي تحمل في كل بلد اسماً مختلفاً، إلا أن نهجها واحد، ورسالتها معروفة رغم اختلاف سياساتها، حسب الظروف الذاتية والموضوعية.
إن الموقع الجيوبولتيكي لتونس في شمال افريقيا جعل هذا البلد متأثراً لدرجة كبيرة بمبادىء الثورة الفرنسية، وبالحياة المدنية الأوروبية، رغم عراقة الإسلام فيه، وذلك لمعرفة أهلها اللغة الفرنسية بشكل عام، ولوجود نسبة كبيرة من العمال التوانسة في دول غرب أوروبا، وبخاصة في فرنسا وألمانيا. ومن ناحية أخرى، فإن هذا البلد جزء من العالم العربي – الاسلامي منذ قرون طويلة وتأثير الدين الاسلامي في شعبه كبير، كما أن التيار الإسلامي السني قد تأثر إلى حدٍ ما بثورة الشعوب الايرانية، وحاول التوفيق باستمرار بين الأفكار الديموقراطية الغربية ومبادىء الإسلام، إلا أن الثورة على نظام زين العابدين، الذي لم يكن كالشاه الايراني، اختلفت عن الثورة الايرانية، فالشاه كان سارقاً كبيراً مع ولده للثروات الوطنية مثل زين العابدين وزوجته، إلا أنه كان يتصرف كملك يريد لأمته مكاناً تحت الشمس ولأن تصبح ايران في ظل عرشه دولة اقليمية عظمى، ولاأدل على ذلك من اقامته احتفالات بيرسيبوليس الشهيرة التي كلفت أموالاً طائلة، أراد الشاه بها الإشارة إلى تاريخ عظيم للشاهنشاهية الفارسية العريقة، وإلى دوره المهم في المنطقة. وعندما أضطر الشاه لترك العرش والخروج من البلاد قبل أحد جنرالاته حذاءه، أما زين العابدين فقد تخلى جيشه عنه بسرعة لأنه كان مجرد لص تسلل إلى قيادة البلاد، ولذلك كان هروبه سريعاً، دون حاجة لقصف قصوره من قبل قوات تونسية أو دولية، ودون أن تتحول الثورة التونسية الشعبية إلى ميدان لظهور تيارات متطرفة فيها، أو تتحرك البلاد صوب الفتن، وظلت الثورة سلمية رغم استخدام الأجهزة القمعية كل امكاناتها ضد الشباب الثائر وسفكها الدماء أيضاً.
إن انضمام الإسلاميين الذين كانوا مقموعين بشدة قبل الثورة، وبخاصة من حزب النهضة، كان طبيعياً ومنذ البداية وبقوة. وسعى بعضهم إيجاد مخرج “شرعي” لفعلة “الانتحار” التي ارتكبها الشاب البوعزيزي وفتح بها باب الانطلاق للثورة، على الرغم من أن الانتحار هو قتل نفس بريئة، وقتل النفس بدون نفس أو فسادٍ في الأرض كقتل الناس جميعاً في نظر الدين.
إن ثورة تونس تعتبر أنموذجاً واضحاً لثورة سلمية قام بها شعب عانى من القمع وارهاب السلطة لأكثر من عقدين من الزمن، وأثرث مباشرة في الثورات العربية التي تلتها، في مصر وليبيا واليمن وسوريا، وشجعت الشباب من مختلف التيارات السياسية على الانتظام والتلاقي والتظاهر والتجمع، دون خوف من إرهاب الأنظمة، كما أنها دفعت التنظيمات الإسلامية إلى التفكير فيما يجب أن تقوم به، وهي منهكة وغير ذات تجارب في قيادة الشعوب، ومتهمة بالسعي للسيطرة على الحكم على غرار ملالي ايران الذين استغلوا نهوض الشعوب الايرانية لتسلق السلطة على أكتافها، وهي قوى”غير ديموقراطية” تحاول فرض “الشرع” بالقوة على جميع المكونات الوطنية السياسية والفكرية والدينية.
كان يمكن للسوريين أن يسبقوا التوانسة في تفجير ثورتهم بزمنٍ طويل، ففي آذار عام 2004، أدى نزاع في ملعب رياضي بمدينة القامشلي في الجزيرة إلى انفجار ثوري عنيف للشعب الكوردي ضد نظام بشار الأسد، فامتدت ألسنة الانتفاضة إلى التي راح ضحيتها عدد كبير من شباب الكورد جميع المناطق الأساسية التي يعيش فيها الكورد، وهي الجزيرة وكوباني وجبل الأكراد، حتى مدينتي حلب وحي زورافا في أنحاء دمشق، وذلك نتيجة احتقان سياسي طويل الأمد وممارسات سياسية عنصرية وتمييز قومي، إضافة إلى القمع الشديد والاجراءات اللاإنسانية التي قام بها وشجعها محافظ الحسكة سليم كبول بنفسه، ومنها إطلاقه النار شخصياً على الشباب الكوردي، ولكن عدم دعم المعارضة الوطنية السورية لتلك الانتفاضة، واعتبارها شغباً كوردياً بدعم “أمريكي – اسرائيلي” لتقسيم سوريا، لم يوقف الانتفاضة الشعبية فحسب، وإنما دق اسفيناً بين المكونات السياسية السورية، ودفع بالكورد إلى التفكير ملياً قبل الاقدام على أي مغامرة مشتركة مع المعارضة السورية فيما بعد، ومنها فصائل وشخصيات لاتقل عنصرية عن البعثيين تجاه الشعب الكوردي. وهنا يجدر بالذكر أيضاً أن الحركة السياسية الكوردية لم تفهم “لغة الشباب”، ولم تكن جاهزة لقيادة شعبها وانتزاع إيجابيات الانتفاضة، بل تعاونت في معظمها مع النظام – مع الأسف- ل”ترتيب الأمور” من جديد في المناطق الثائرة. ولكن الشخصية الإسلامية المستقلة، من خارج الاحزاب والتنظيمات السياسية، هي التي فهمت لغة الشباب ورأت في الانتفاضة شرارة أمل لكل المضطهدين، وهو”شيخ الشهداء” الدكتور محمد معشوق الخزنوي، الذي خطب خطاباً ثورياً على قبر شهيدٍ شاب يدعى “فرهاد” فألهب حماس الشباب وحرك أدمغة الساسة الكورد، وأثار أسئلة عديدة حول الدين وموقفه من الثورة، وأظهر للسوريين بأن مكان علماء ورجال الدين في خندق الثورة وليس في صف الجور والطغيان، وأن الحقوق تؤخذ بالقوة وليس بالتوسل، فإذا بالشباب الكوردي يرفع بالشيخ الشهيد إلى ذروة تراتبه الوطني السياسي، وتجعله رمزاً للمقاومة، كما أظهر استشهاد الشيخ على أيدي جلاوذة النظام أن الفجوة بين الشارع الكوردي الرافض للأوضاع القائمة وبين الدين ليست كبيرة بالشكل الذي يظنه العلمانيون، حتى أن الكثيرين منهم راحوا يعتبرون الشيخ قائداً للثورة، بل للحراك الوطني الكوردي في غرب كوردستان.
معلوم تماماً أن أنظمة حسني مبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، وعلي صالح في اليمن، وبشار الأسد في سوريا، أنظمة معادية للإسلاميين بامتياز، وأنها مارست بحقهم مختلف أشكال القمع الوحشي والاضطهاد السياسي، وأن مجمل التربية في المدرسة وفي الإعلام كان منصباً على تبرير تصفية الإسلاميين جميعاً، ولكن الثورات التي تفجرت وتوالت وانتصرت على الأنظمة التي تهاوت كما تتهاوى أحجار الدومينو، لم تساهم في اعادة خلط الأوراق على الساحة السياسية لهذه البلدان فحسب، بل أفسحت المجال أمام الإسلاميين أن يتحركوا مثل غيرهم للقيام بما يرونه ضرورياً لبقائهم في الساحة، فشارك الإخوان المسلمون بقوة في الثورة المصرية، وجنوا من ذلك فوائد عظيمة، منها أنهم قد يحصلون بعد أيام قلائل على أعلى مناصب الدولة في “الجمهورية الثانية” لبلادهم، بعد أن حصدوا الكثير من مقاعد البرلمان المنتخب، وساهم أحد الشيوخ الكبار (مصطفى عبد الجليل) في الطلب الشعبي الليبي لاستحضار قوات الناتو لقصف مقرات القذافي وهدم قصوره على رأسه، وهاهو اليوم في أعلى مكانة سياسية في ليبيا، في حين أن الاستعانة بغير المسلمين كان موضع جدالٍ تاريخي كبير بين الإسلاميين. وفي كل من اليمن وسوريا يشكل الإسلاميون، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون بتسمياتهم الحزبية المختلفة من أهم الفصائل السياسية ضمن الثورة ضد السلطة، والذين وقفوا ضدها قلة منحرفة من العلماء والصوفيين، من أمثال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، لايؤثرون على مسار الثورة.
في مؤتمر صحافي لمرشح الإخوان المسلمين في مصر (محمد مرسي) الذي يتوقع المراقبون فوزه على منافسه (أحمد شفيق) للحصول على منصب الرئاسة، عرض نقاطٍ بارزة لبرنامجه السياسي، منها أنه سيضمن الحرية والمساهمة السياسية العادلة للجميع في النظام المصري الجديد، ولايرى حرجاً في أن يكون نائبه أو مستشاروه من غير الإخوان المسلمين، بل من الأقباط المسيحيين أيضاً، وقدم استقالته من حزب الحرية والعدالة ومن الإخوات المسلمين على حدٍ سواء…
وفي هذه الأثناء نسمع ونقرأ لزعماء الإخوان المسلمين السوريين ومفكريهم الكبار، الذين عاشوا أعواماً عديدة في دول عريقة في الديموقراطية كبريطانيا وألمانيا وفرنسا، منهم علي البيانوني وزهير سالم وعصام العطار والشقفة وسواهم، تأكيدات متتالية على عهدهم للشعب السوري باحترام الأصول الديموقراطية والتعددية والاختلاف السياسي والتنوع الثقافي والقومي والديني في سوريا ما بعد الثورة، وقد حاولوا أن يجعلوا من المجلس الوطني السوري إطاراً مطابقاً لتصوراتهم السياسية، فنصبوا علمانياً (الدكتور برهان غليون) رئيساً له، ولكن هذا الرئيس بالذات قد ذكر يوم إعلانه استقالته بأن هناك فجوة بين العلمانيين والإسلاميين ضمن المجلس المفترض فيه أن يجمع كلمة السوريين، وهو ذاته الذي رفض منح الشعب الكوردي أي حق في حكم نفسه بنفسه (وهي من أسس الديموقراطية)، مما دفع بممثلي الكورد للإنسحاب من المجلس.
لعب حزب الله اللبناني متمثلاً برئيسه حسن نصر الدين دوراً مزدوجاً ومشبوهاً في المشهد الثوري العربي، فقد كان يعتبر الثورات الشعبية في تونس ومصر وليبيا واليمن في طلعاته الاعلامية البهية انعكاسات لأفكار الثورة الإسلامية الايرانية، وتحركاً للشعوب صوب الحرية وانقاذ نفسها من طغيان الأنظمة “العميلة للشيطان الأكبر!”، إلا أنه لايزال مع نظام الأسد ضد ثورة الشعب السوري التي لاتختلف في جوهرها وأساليبها وحركتها الشبابية السلميو والمتطلعلة إلى الحرية عن الثورات التي سبقتها. هذا النفاق يحدث –مع الأسف- باسم الدين الحنيف، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار كما نقرأ في النصوص المثبتة من الدين.
أمام هذه المساهمة الواسعة لرجال الدين والمؤمنين بالأديان، من مسلمين ومسيحيين وسواهم، يقف العالم الغربي محتاراً، لايدري تماماً كيف عليه التصرف حيال نتائج هذه الثورات التي غيرت وجه الشرق الاوسط، وأضطر علماء وخبراء الاستراتيجية والسياسة الدولية والاجتماع والدين إلى احداث تغييرات كبيرة في برامجهم ودراساتهم التي يقدمونها لقيادات بلدانهم، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية التي يتكون فيها رأي واضح، ألا وهو التعامل مع المستجدات بواقعية سياسية، والتعاون مع هذه الأنظمة التي يلعب فيها الإسلاميون أدوراً بارزة، طالما أنهم لايدعمون الاتجاه العدائي الشديد ضد العالم الغربي ولايساندون إرهاب القاغدة وسواها في العالم.
وختاماً، أرى بأن الاختلاف بين موقف الكنيسة من الثورة الفرنسية وموقف رجال الدين المسلمين من الثورات التي حدثت ولاتزال تحدث في سوريا، اختلاف عظيم، لايمكن فهمه بسهولة دون تعمق في جوهر الدين وطبيعته، وفي التغيرات التاريخية الكبيرة للبشرية التي اكتسبت عبر العصور خبرات هائلة في مجال الوعي السياسي – الثقافي – الديني.